الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

كاهن "الشفاء" في لبنان... الأب مايكل لابسلي لـ"النهار": خطوة واحدة قد تغيّر الحياة

المصدر: "النهار"
هالة حمصي
هالة حمصي
كاهن "الشفاء" في لبنان... الأب مايكل لابسلي لـ"النهار": خطوة واحدة قد تغيّر الحياة
كاهن "الشفاء" في لبنان... الأب مايكل لابسلي لـ"النهار": خطوة واحدة قد تغيّر الحياة
A+ A-

هذا الكاهن خطير، بمعايير استخبارات ذلك البلد في القارة السمراء، ويجب تصفيته. ضغوط، تهديدات، اخطار، مخاوف، نفي قسري لم تجعل الاب مايكل لابسلي الانغليكاني يتراجع قيد انملة في نضاله من اجل التحرير في جنوب افريقيا. حتى الرسالة المفخخة التي ارادوا اغتياله بها لم تثنِ عزيمته. في تلك اللحظة، "صعقه الانفجار "صعقا"، وشعر بانه "يسقط في ظلمة لا نهاية لها".


في تلك اللحظة، خسر الكثير الكثير: "الانفجار بتر يدَي، واقتلع عينِي"، ومزّق طبلتي اذنيه، واصابه بجروح خطرة، وحطم جسده. "صار جسدي برهانا حيا على وحشية نظام التفرقة العنصرية" في جنوب افريقيا. "كنت الضحية التي تؤدي الشهادة"، على قوله. ايا يكن حجم ما انتُزع منه في 28 نيسان 1990، "لكن لدي اكثر، وكسبت المزيد. وادركت انني اصبحت انسانا افضل من اجل المسيرة التي أخوضها"، يقول في حديث الى "النهار".



 الاب لابسلي (الى اليسار) والكاتب الذي شاركه في التأليف ستفن كاراكشيان.


 


مسيرة امة... في رجل
الشاهد بقي حيًّا، "خرج منتصرا"، رغم انف المجرمين، وتابع النضال كما بدأه بإصرار، بعناد لا مثيل له. لكن هذه المرة، تحوّل المناضل شافيا، شافيا للذكريات. من اعوام وهو يجول في ارجاء العالم ليخبر عن مأساة شعب جنوب افريقيا وشفاء الذكريات. اليوم، تقوده رحلته العالمية الى لبنان، ليشهد بالكلمة الجريئة وجسده المثخن بالجراح، ليخبر عن مسيرة حياته التي يقول "انها تعكس مسيرة الأمة"، امة جنوب افريقيا، وليدعو الى الشفاء.


قصة هذا الكاهن النيوزيلندي جنوب افريقية بامتياز. "لكنها ايضا عالمية. انها تتعلق بالبشر، وكيف يكون رد فعلنا عندما يحصل لنا امر سيء. هل يدمرنا ذلك، ام يعطينا فرصة للنمو في اللطف والتعاطف؟"، على قوله. قصته هي ايضا عن اهمية الجماعة. "من ساعد في شفائي اشخاص من مختلف ارجاء العالم رافقوني في مسيرة شفائي. نعم، قوة الجماعة تمكّن من الشفاء. ولولا دعم هؤلاء الناس، لما تمكنت من الشفاء". ويكتب: "ان سيل المحبة والدعم الذي تلقيته سمح لي بالانتقال من دور الضحية الى دور الناجي، واخيرا الى دور المنتصر".


من جنوب افريقيا التي احبها وجعلها "بيته" من عقود، يأتي برفقة ستفن كاراكشيان، شريكه في كتابة مؤلفه: "شفاء الذكريات من مناضل لأجل الحرية الى شافٍ" الصادر عن دار المشرق(1). هناك، في تلك البلاد، انطبع بالتضامن الجماعي. "ادركت ان نظام الابارتايد ما أمكن تغييره بأشخاص بطوليين، بل بملايين يعملون معا لتغيير الوضع". وكان واحدا منهم.



مع الزعيم الجنوب افريقي نلسون مانديلا، خارج زنزانته في سجن روبن في مناسبة مرور 5 سنوات على تحريره.


 


ما اقوله للبنانيين...
في كتابه، يشهد لنضالاتهم ونضاله معهم من اجل التحرير. ويخبر "كيف سمح الله بان أجعل هذا الاعتداء خبرة خلاصية"، على قوله، مرورا بشفائه "الذي يشبه سفرا روحيا"، وصولا الى عمله في شفاء ذكريات اؤلئك الذين اضُطهدوا وقُمعوا وتعرضوا للتعذيب والتمييز العنصري على يد نظام الابارتايد وغيرهم. "اود ان اردّ جميل من ساعدوني في شفائي عبر مساعدة آخرين يتألمون". الرسالة التي يوجهها الى اللبنانيين الذين عانى كثيرون منهم حروبا واضطهادات، هي "انه من الضروري جدا الاقرار بالماضي. وليس من المفترض ان نزيّفه. وعلينا الا نكون سجناء له".


من خبرة حياة زاخرة بالنضالات التحريرية والانسانية، يتكلم الاب لابسلي. "من الممكن ايضا كسر سلسلة التاريخ التي تتعلق بضحايا صاروا ضحية من كانوا ضحايا. في الشفاء، نتكلم على كيفية كسر هذه السلسلة. لكن لتحقيق ذلك، علينا ان نجد وسيلة لازالة السموم، والتخلص من الكراهية والمرارة اللتين لا تدمران الاعداء في النهاية، بل تدمرانا نحن. الامر يتعلق اذًا بما يجب القيام به من اجل مصلحتنا، كي نتمكن من عيش حياة مرضية".
يشرّع الاب لابسلي الباب على مسيرته كمناضل وشافٍ، من دون خطوط حمر، ككتاب مفتوح. يروي طفولته في نيوزيلندا، حيث نشأ على "قيم المساواة بين جميع الناس"، وادرك في سن باكرة "اهمية مكافحة التمييز العنصري". رغبته الجامحة في اتباع يسوع المسيح عمليا، دخوله الدير عندما كان في السابعة عشرة، تأثير حرب الفيتنام التي شاركت فيها بلاده الى جانب الولايات المتحدة... محطات مؤثرة في حياته، و"رفض الحرب غير العادلة جزء من تنشئتي".



 لابسلي كاهنا شابا.


المقاومة... "ولا أندم"
في اليوم الذي وصل فيه الى جنوب افريقيا (1973)، كمرسل من رهبنته "الرسالة المقدسة" الانغليكانية بعد رسامته الكهنوتية، "لم اعد انسانا، بل رجلا ابيض"، يقول. بالنسبة اليه، "الانضمام الى النضال التحريري يعني النضال لاستعادة انسانيتي، تضامنا مع السود المناضلين من اجل حقوقهم الانسانية الاساسية".


كان لديه خياران يومذاك: "اما اقبل الوضع السائد، اما أقاومه". واختار الثاني. كان يمكنه ان يختار الاول، "ويعني طريق الراحة"، على قوله، "ولكن لتوجب علي ان انكر ضميري". ادرك ان قيم الحياة التي تشرّب بها في بلاده "تعاكس كليا ما يقوم عليه نظام الابارتايد". و"كي اعيش بنزاهة مع نفسي، قررت ان اكون ضد هذا النظام".


ولا ندم لديه اطلاقا على الخيارات الجذرية التي قام بها. "لو عشت حياتي مجددا، لقمت بالخيارات نفسها". تأنيب ضمير؟ نعم، لديه ما يفكر فيه. "خلال اعوام النضال، شهدت ظلما في اوقات معينة، وبقيت صامتا. واقول لنفسي انه كان يمكن ان اتكلم اكثر، او ان افعل اكثر".


يصارح نفسه امام ناظريه ببساطة، بهدوء. في استعادته الاحداث، يطرأ على باله "تمن"، ويعبّر عنه بشيء من الطرافة. "لو كنت اكثر ذكاء، لما فتحت الرسالة المفخخة التي ارسلت اليّ" من جنوب افريقيا الى "منفاه" في زيمبابوي. يومها، "خسر الكثير" في التفجير، و"خساراتي لها سمة النهائية". ايا يكن، "فان الامر كان يستحق"، يؤكد. بالنسبة اليه، "مرسل الرسالة خسر اكثر مني، لانه يعيش مع حقيقة ما فعله. اذا كان سجينا لما فعله، فلدي المفتاح، وقد اديره (لافتح الباب)".


ظلُّ مفخخي الرسالة يرافقه. لم يغب عن البال. في وقت توصله رحلته الى بيروت، لا يزال يجهل هويتهم. لذلك "الغفران بالنسبة الي ليس مطروحا بعد على الطاولة"، يقول. غالبا ما يجيب بان لا كره او مرارة في قلبه، وانه لا يريد الانتقام، "لكنني لم اسامح احدا، لانه لا يوجد احد لاسامحه. لكنني منفتح على المسامحة".


"خطوة واحدة"
المسامحة من نتائج شفاء الذكريات، نضال الاب لابسلي منذ اكثر من 20 عاما، حتى قبل تـأسيسه جمعية "شفاء الذكريات"(2) العام 1998 في الكاب في جنوب افريقيا. العام 1991، عاد الى البلاد التي نفي منها قسريا قبل 15 عاما (1976). وفيها حقق لاحقا انتقاله من مقاتل لاجل الحرية الى شاف. "الاعتداء عليّ بالتفجير كان بمثابة نار تنقية منحتني تدريجيا وضوح الرؤية. وسأجد الوسيلة التي تجعلني استعمل اعاقتي المرئية اداة لشفاء الآخرين"، يكتب. وهذا ما فعله، ولا يزال يفعله حتى اليوم في مختلف ارجاء العالم.


حاجة الناس، "حاجتهم الى من يصغي الى آلامهم"، تناديه، تلمسه في العمق. "اعتقد انه لا يمكن ازالة ألمهم. لكن في شفاء الجراح، يمكن خطوة تلو خطوة، ان نكون بسلام تجاه ما تعرّضنا له، ان نتمكن من العيش مع انفسنا. ورش عملنا بمثابة مرآة تعكس حاجة الناس الى مساعدة، وما يحتاجون اليه كي يكونوا في سلام".


ما تعد به ورش عمل جمعية "شفاء الذكريات" "خطوة واحدة" في اتجاه الشفاء. "لكنها قد تكون عملاقة. قد تغيّر الحياة"، يقول لابسلي. في تعريف عنها، تشرح الجمعية ان "كل شخص لديه قصة ليخبرها. وكل قصة تحتاج الى ان تُسمَع، ان يُقرّ بها، وان تُحترم. انها الخطوة الاولى لشفاء شخصي، كما لشفاء العلاقات بين الاشخاص".



الاقرار
بتعابير اخرى، الخطوة الاولى هي ما يسميه الاب لابسلي "اقرار بالجراح. عندئذ، تزداد فرص الشفاء". ويشرح في كتابه: "ايا يكن مسار الشفاء الذي نضعه، عليه ان يحوي بعدا جماعيا، عناصره الاساسية الاقرار، المرافقة، الروايات، والروحانية الموجودة خلف كل هذا". نقطة اخرى. "الشفاء ليس ميكانيكيا. وعند كثير من الناس، قد يستغرق الامر معظم حياتهم... الامر يختلف بين شخص وآخر"، يشرح.


ايا يكن، انه وقت الشفاء، و"نعيش في زمن مختلف"، في رأيه. وبالتالي "التركيز" اختلف. "التركيز حاليا على الشفاء"، لكن هذا لا يعني ان "التركيز الذي كان لدي على النضال اختفى". وهذا يعني ايضا انه اذا تغيّر الزمن مستقبلا، فان "المناضل (من اجل التحرير) سيظهر مجددا"، يضيف ضاحكا.


هذا المناضل العالمي يستمد قوته من "كون مسيرتي ايمانية"، وايضا من "الالهام الذي احصل عليه من اشخاص التقيهم في ارجاء العالم، اشخاص عاديين جدا، اشخاص يعيشون حياة عادية من اللطف والتعاطف والسخاء، من مختلف الديانات والانتماءات".


اليوم، ينهمك الاب لابسلي في نضاله. "انا شاف اعمل لأحرر الناس من سجن ماضيهم، من ان يكونوا محبوسين في فترة من حياتهم ليصيروا مجددا فاعلين في التاريخ ويتمكنوا من صنع العالم وصنعه بملء حريتهم". ورش العمل التي تنظمها جمعيته وصلت الى بلدان كثيرة، منها الولايات المتحدة وفرنسا واسبانيا ولوكسمبورغ. "اذا لم نضمد جروح اصحاب القلوب المحطمة، لا نستطيع ان نرجو بناء مجتمع عادل ودائم يجد فيه كل واحد مكانه، لان ضحايا الامس يصيرون بسهولة جلادي الغد".


 


 


(1)الكتاب ظهر بالانكليزية بعنوان: "Redeeming the Past, From Freedom Fighter to Healer"، Orbis Book، Maryknoll، New York، 2012. وقد تُرجم الى نحو13 لغة، الى جانب العربية.
(2) Institute For Healing of Memories، South Africa.
www.healing-memories.org


*يقدم الاب مايكل لابسلي كتابه "شفاء الذكريات من مناضل لاجل الحرية الى شاف" في لقاء بعنوان: "شفاء الذكريات وتحديّات الغفران" تقيمه دار المشرق المؤسسة اللبنانية اليسوعية للنشر المكتبي والالكتروني، بالتعاون مع كلية العلوم الدينية في جامعة القديس يوسف وحركة "لبنان الرسالة"، الساعة 6,00 مساء الخميس 23 آذار 2017 في اوديتوريوم فرنسوا باسيل، حرم الابتكار والرياضة في جامعة القديس يوسف في بيروت.


ويتكلم في اللقاء، الى لابسلي، مدير دار المشرق الاب صلاح ابو جودة، نائب رئيس حركة "لبنان الرسالة" الجنرال خليل الحلو، الكاتب المشارك في الكتاب ستفن كاراكشيان، ومترجم الكتاب الاب سامي حلاق.


 


[email protected]
Twitter: HalaHomsi

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم