السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

آمال البابا في "بروتوكول": أُمُّ الراوية المظلومة من دون تفجُّع

نجلا حمادة - (كاتبة)
آمال البابا في "بروتوكول": أُمُّ الراوية المظلومة من دون تفجُّع
آمال البابا في "بروتوكول": أُمُّ الراوية المظلومة من دون تفجُّع
A+ A-

"بروتوكول"، لطالبة الماجستير الشابة آمال البابا، تعد بنتاج قد يغني المكتبة الروائية العربية بنكهة جديدة تجمع بين الممتع وبعيد الوقع، إن ثابرت البابا على تطوير ما لديها من موهبة أدبية وذوق راق وفكر متعدّد الأوجه. فهي، مثلاً، تجمع بين عمق الإحساس الإنسانيّ وبين عين ثاقبة في نقد صيغ اجتماعية سائدة وبين إبداع في تصوير الطريف والمأساوي، بتجرّد يظهرهما كوجهين لعملة واحدة.


والجانب المأساوي من الرواية هو ما وقع على أم الراوية من ظلم، تصوّره البابا من دون تفجّع على المظلومة ومن دون تحامل على الظالم. فالضحية تكثر من الصراخ والشتم. وهي مهووسة بالنظافة، بحيث تجبر كل من يدخل بيتها أن يخلع الحذاء الذي مشى به في الشارع، وتكرّر مسح الأرض بالـ"شرطوطة" مرات عديدة في اليوم. والأب الظالم رجل متديّن لا يتوانى عن المبيت على مقعد في المستشفى كلما اضطر إلى اصطحاب زوجته المريضة من بيتهم في طرابلس إلى أحد مستشفيات بيروت. وكون زوجته محجبة ومنغمسة في واجباتها العائلية يبرّر للزوج تسجيل الأرض التي اشتراها من مدّخراتها باسمه، حتى لا يزعجها بالذهاب إلى دوائر الدولة. وهذا الجمع، بلا تعليق، بين أعمال محمودة وأخرى مذمومة، يقوم بها كل من شخصيتي الرواية الرئيسيتين، يغني وقع الرواية فنيًا وإنسانيًا، مذكّرًا بما في حياة الناس وفي أحكام المجتمع من أحاج وتعقيد.
أما ما يتوافر في الرواية من طرافة، سوداء موجعة حينًا وملوّنة مضحكة أحيانًا، فينبئ عن ذوق راق، أبعد الروائية عن السقوط في البوح أو التفجّع أو الملامة أو الوعظ، وأبقاها على مسافة من أي حكم مبرم على أحداث الرواية وأشخاصها. فالبابا توسّلت راوية طفلة تسرد ما كان بين والديها. وبراءة الراوية وحيرتها في تقويم ما تشهده من أحداث تستفزان حميّة القارئ للانتصار للمظلوم وتستثيران تفكيره حيال الصيغ والأحكام الاجتماعية التي تبرّر سلوك الأب، له وللناس، والتي تلوم الضحية على غضبها أو سلاطة لسانها. وفي تصوير البابا لمفارقة كهذه ما يشبه المشهد الذي صوّره مارسيل بروست في: "في استعادة الزمن الضائع" حيث تنعت الخادمة الديك "بالرذيل" لأنه يهرب منها ويصيح، وهي راكضة في أثره، حاملة سكينًا لتذبحه. فقوّة وقع المشهدين، عند بروست كما عند البابا، تنبع من إبراز الكاتبة للطريف والمستهجن في سلوك مألوف قلّما نلحظ ما فيه من غرابة، من الناحيتين الأخلاقية والمنطقية. فكل منهما، إذ يصوّر العلاقة بين صاحب سلطة وبين الواقع في أسرها، يظهر الفكاهة المرّة الكامنة في ردود فعل مقبولة اجتماعيًا، تبرئ الجاني وتلوم الضحية على عدم الانصياع لإرادته.
والطفلة البريئة / الراوية تضيق في أول الرواية بسلوك والدتها المحبوبة، من دون أن تدري ما ينطوي عليه صراخها وشتمها من قهر وإذلال عائلة زوجها المستمر لها، من حملوها على تناول غدائها الأول عندهم في المطبخ مع الخادمة "كي تأخذ راحتها"، ومن زوجها المحايد إزاء ما تلقاه من عائلته. وفي القسم الثاني من الرواية، يتغيّر موقف الراوية من سلوك والدها من التعاطف إلى الحيرة وأحيانًا الغضب. فلعلها غدت أكبر سنًا. أو لعلّ ظلم والدها لوالدتها غدا أكثر انكشافًا، لأن مرض الأم وضعفها جعلاه لا يحفل في إخفاء غايته. ومما يسبب حيرتها امتداح الناس لرعاية والدها لزوجته في مرضها، من جهة، ولرفضه أن يأخذها إلى المستشفى أو لتوفير ما يخفّف ألألم عنها، في المراحل المتقدمة من مرضها عندما تطالبه بهذين، من جهة أخرى. بل يزيد من حيرتها التفاوت بين ما هو واقعي من وجهة مادية وما هو غير إنساني، من وجهة عاطفية أو أخلاقية، عندما يقول والدها عن زوجته المريضة أنها "ستموت"، فلا فائدة من تكبّد التكلفة المادية أو عناء الاستجابة لما تطلبه.
أما الطرفة السوداء الوحيدة التي تجازف الكاتبة فيها بالمباشر أو شبه المباشر في إبراز درامي لدينامية العلاقة بين الزوجين، فهو في تصوير وسوسة الزوجة بالنظافة، التي كانت تحملها على مسح البلاط بالـ"شرطوطة" كلما استخدم أحد الحمام خوفًا من أن يحمل بولاً إلى داخل الدار، مقابل ابتداع الزوج علاجًا لها، مبنيًا على قراءاته "الطبية"، يتضمن سقيها حليب الإبل بعد أن يمزج فيه شيئًا من بول الإبل، من دون أن يخبرها بذلك. فهي لقطة رائعة للتعبير عن إمكان إساءة المتسلّط لاستخدام السلطة، متجاهلًا تمامًا حرية المتسلّط عليه وذوقه ومزاجه.
وبالإضافة إلى سلاسة أسلوبها الذي لا يشوبه تكلّف أو ادّعاء "تراثي" أو تقليد لنجوم كتابة محدثين، يلفت عند الكاتبة الشابة ما في بنيانها الروائي من تراص، فلا نتوءات فيه ولا هدر، مما يذكّر برائعات سومرست موم التي تكثّف التركيز على الهدف المركّب الواحد، ولا تنزلق إلى أحداث واستطرادات جانبية. فروايتها مركّزة على العلاقة بين الزوجين في تسلسل مراحلها بين قرار الارتباط لأسباب غير شخصية وبين مرض الزوجة الذي تعبأ الزوج لمعالجته على طريقته وبين موتها الذي انتظره وقابله بابتسام، وهو يخبر ابنته بموت أمها. ومما يغني أبعاد الرواية ويضفي عليها صبغة اجتماعية أو إنسانية جامعة أن أحداثها تتواتر في ظل أنماط مقبولة ومكرّسة اجتماعيًا، على رغم ما تؤدي اليه من مآس.
وفي رأيي أن "بروتوكول" آمال البابا الممتعة والمليئة بالصور النابضة هي عمل روائي مميّز، فيه من الصدق ومن النظرة الثاقبة الناقدة ومن الحس والذوق الأدبيين ما ينبئ عن مولد روائية من المجلّين في الصفوف الأولى لمحترفي هذا الفن.


¶ آمال البابا، بروتوكول. (بيروت: دار الساقي، 2017)، 142 صفحة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم