الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

قصر الصنوبر كرّم هنري غريّب في أمسية أوبرالية نادين نصّار في نسيج صوتها رسالة سلام للإنسانية

مي منسى
قصر الصنوبر كرّم هنري غريّب في أمسية أوبرالية نادين نصّار في نسيج صوتها رسالة سلام للإنسانية
قصر الصنوبر كرّم هنري غريّب في أمسية أوبرالية نادين نصّار في نسيج صوتها رسالة سلام للإنسانية
A+ A-

اجتاز هنري غريّب الثمانين ولم يدع آفات الشيخوخة تنال ذرّة من علاقته الودّية مع البيانو. قصّة غرام لا يزال يعيشها منذ الأربعينات من القرن الماضي، كلما جلس إلى ملامسه، مطمئنّاً إلى مفاعيل هذا الإكسير السحري، تنشط ذاكرته، تؤجّج ناره وتعيد إليه فتوّة الشباب.


قصر الصنوبر، حيث مقام السفارة الفرنسية في لبنان، لعلّه المقرّ الوحيد في بيروت، الذي لا يزال مؤتمناً على تراثه اللبناني العريق، ندخل بدعوة إليه في المناسبات الثقافية والفنيّة، كمن يستعيد صفحة من تاريخ لبنان، المصان هنا بالحجر والأفاريز والأعمدة. كان هو ذلك الشعور، كمن يتنشق هواء لبنان الذي نشتاقه، فيما الحدث الذي دعينا إليه، من فاكهة لبنان وعطاء تربتها. هنري غريّب المكرّم من السفارة الفرنسية، المنسي في بلده، أتى ليس مكرّماً وحسب بل أيضاً لينعش بعزفه حديقة نادين نصار، ويطلق في كل مقطوعة وآريا، عبق الباقات المتالّقة من حنجرة سوبرانو جعلت ببساطة إطلالتها، بابتسامة الطفولة على محيّاها، من الغناء الأوبرالي رسالة حب وسلام إلى الإنسانية.
إلى بيانو هنري غريّب وشدو نادين نصّار، دخلت كلارينيت أوكتافيان جورجيو، تلقّم بجوارحها، الجو الرومنطيقي السائد في هذه الأمسية. فبعد كلمة سفير فرنسا إيمانويل بون، التي أثنى فيها على مسار فنان، وقال أن مواهبه العزفية بدأت منذ بداية الأربعينات، وحملها معه إلى ذلك العمر من دون أن تنوص شعلة من أدائه. وأشاد بصوت نادين نصّار السوبرانو التي جعلت من رسالتها ضوءاً مشعّاً على " البل كانتو".
المختارات، وصفتها نادين نصّار في البرنامج الذي وزّع علينا، بمقطوعات تنسجم بحميمية هذه القاعة من قصر الصنوبر، وما غايتها الليلة سوى لحظات موسيقية حارّة من القلب إلى القلب.
كان غلاك في رأس القائمة، وأنامل غريّب تكرج، كعشيق مسرع إلى ملاقاة حبيبته، فارتفع في هذا اللقاء الحميم، صوت نادين، كسنابل القمح في احتكاكها بالنسيم. من أوبرا " باتريد وإيلينا" اختارت آريا باتريد، والنغم المتعالي، هنيئاً، مكتنزاً بالحب، يغرّد بلغة الطيور فنتلقى من المعايير المتعانقة في تصاعديتها، لوعة الحب وعذوبته.
من باريزوتي أنشدت والبيانو يعبّد لها الطريق، أرييتا بالإيطالية، ففي هذه الأمسية تنوّعت اللغات التي اتحد فيها صوتها، وفي كل بلد، لها فيه عشق تلده من حنجرتها. لذا وإن غنّت بالألمانية والأيطالية والفرنسية، ظلّت القائمة متناغمة في تنويعاتها، فالعنوان الجامع هو الحب في مقاييس المؤلّفين الرومنطيقيّين وتأثيرهم في النفس حين تنشده سوبرانو بقيمة نادين نصّار، المتوارية خلف شمس صوتها، فلا نعود نسمع من المرأة سوى الأثير المتمدّد على حديقتها.
والقائمة سخيّة على قدر الأحتفاء بهذا الفتى الثمانيني الجالس إلى ملامسه، يحتفي بدوره بها. هي تارة نينا العاشقة في أغنية لفنسنزو شيامبي، وتارة من عالم الطيور حين أخذها موزار على أغصانه. ومن قصيدة لأنطوان فرّان، حطت على شجرة موزار وغنّت كما تغرّد الطيور، "أيتها العصافير، لولا تلك السنين..." وموزار لم يتخلّ عنها إذا تابعت تغرّد له أغنية "في غابة منعزلة" للشاعر الفرنسي هودار دي لا موت، وأيضاً موزار، حتى تلاشى الفرح الموزاري أمام رثائية لماسنيه.
نادين نصّار بحثت في التحف الأوبرالية القديمة تنعش بها ذاكرتنا، فكانت من أوبرا "جوسلين" لكاتبها لامارتين.
في الجزء الثاني دخلت الكلارينيت تواكب نادين نصّار، آريا لشوبير. هذا الحزن اللذيذ الناضح من الآلة العذبة، كان في تمازج مع الصوت البشري، فلنادين حنجرة تتآخى بملامس البيانو كما بأنفاس الناي. فبعد هذه الآريا تركت للكلارينيت أن تتحاور مع البيانو، وهنري غريّب هذا الفتى الذي بقي خارج سنين العمر، يزف إليه لحناً من مارل ماريا فيبر.
أغاني الحب كانت العنوان لهذه الأمسية، من رومانس لفكتور ماسيه، إلى ثلاث قصائد لفوري، فهل كنا بانتظار الختام لندرك ما في استطاعة نادين نصّار أن تقدمه لجمهورها من روائع؟ نورما لبلليني، كانت الوعد، فما أن انطلقت برائعة بيلليني، حتى اعتلت بخامة حنجرتها إلى كونية الغناء الأوبرالي.
كيف باستطاعة هذا الصوت المشغول على حذافير النوطة، أن يشحن معه كل المشاعر الأنثوية، ومفاعيلها؟ نادين نصّار تألّقت في هذه الآريا، فما أن قالت كلمتها الأخيرة حتى ترقرقت عيناها بالدموع.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم