الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

البورنو في زمن الرأسمالية والقرصنة

المصدر: "النهار"
البورنو في زمن الرأسمالية والقرصنة
البورنو في زمن الرأسمالية والقرصنة
A+ A-

بزنس البورنو يدر أرباحاً بالملايين. 45 مليون ستريمينغ يومياً. 100 مليار صفحة بورنوغرافية ينقرها متصفّحون من كلّ بلدان العالم سنوياً. "بورن هاب" و"يو بورن" (الأخير يأتي في المرتبة الـ26 عالمياً للمواقع الالكترونية الأكثر زيارة)، وحدهما يشكّلان 2 في المئة من مجموع عدد الصفحات التي يزورها الناس على الانترنت. "لا جديد في هذا"، قد يقول أحدنا. ذلك أنّ المعلومات كثيرة ومتوافرة في هذا المجال. حتى إنه قبل سنوات، تردّد أنّ كلمة "جنس" هي واحدة من أكثر الكلمات بحثاً في "غوغل". إلا أنّ ممثلة البورنو الفرنسية أوفيدي، المعروفة بنزعتها إلى كسر الفكر السائد في الأوساط البورنوغرافية، لها رأيٌ آخر: فهي تصرّ على معرفة مَن يقف خلف هذا البنزس الذي تحوّل منذ منتصف سنوات الألفين لعبة مافياوية تحرّكها شركات متعددة الجنسية.


في الواقع، ما شجّع الممثلة المعتزلة البالغة من العمر 36 عاماً على إنجاز فيلمها الاستقصائي "بورنوكراتيا"، الذي شاهدناه قبل أيام في سوق مهرجان تسالونيك التاسع عشر، اكتشافها ذات يوم أنّه باتت لأيّ كان مشاهدة أفلامها على الانترنت بسبب القرصنة التي تتيح التفرّج على 95 في المئة من المحتوى البورنوغرافي الموجود. أمرٌ آخر دفعها إلى إنجاز هذا الفيلم: أخلاقيات المهنة التي اندثرت، وعدم احترام القوانين التي، على الرغم من وجودها، فلا أحد يحترمها. في ظلّ هذا الوضع المأسوي، شركات إنتاج كثيرة كانت رائدة في هذا المجال سابقاً، أقفلت أبوابها لأن أساليبها التقليدية صارت خارج الزمن. فالمدمن على مشاهدة البورنو تغيرت ذائقته عبر السنوات، لم تعد تسدّ جوعه مَشاهد المضاجعة الكلاسيكية على السرير بين رجل وامرأة، وصنّاع البورنو الجدد لا يلتزمون لأي من المعايير الأخلاقية والمهنية. هدفهم الأوحد: إرضاء المستهلك. هذا كله ينعكس سلباً على أهل المهنة، وأكثر مَن يدفع الثمن هنّ الممثلات المرغمات على تقديم كلّ أنواع التنازلات مقابل مردود مادي يتراجع عاماً بعد عام. ولعل المفارقة تكمن في أنّه، رغم كلّ الأموال التي يدرّها البورنو، فالمهنة في ذاتها تعيش أسوأ مراحل وجودها.


أحد أسباب هذه الفوضى التي يعيشها عالم البورنو ويجعل من أربابه القدامى أشخاصاً خارج المَشهد الحالي، يتسكّعون في الصالونات لتشارك ذكريات الزمن المجيد، هو القرصنة التي توّفرها مواقع الستريمينغ، حيث يُمكن مشاهدة ملايين الفيديوات. التحقيق الذي تجريه أوفيدي يكشف وجود جهة واحدة مستفيدة: الشركة القابضة المعروفة باسم "مايندغيك" ("مانوين" سابقاً) أسستها شخصيات مغمورة لا معرفة لها بالبورنو، وتم افتتاح مكاتب وهمية في بلدان تُعتبر ملاذات أو جنّات ضريبية، حتى إنّ بعض هؤلاء مرتبط ارتباطاً وثيقاً بوول ستريت. على الرغم من اصرارها على معرفة المزيد عن هذه الجهة، فأوفيدي تفشل في كشف المزيد من الأسرار عن هذه الشركة القابضة. نجدها تكتفي بالتلميح إلى أنّ تبييض الأموال والأعمال المافياوية المشبوهة من صلب هذا الوسط. فالضالعون به متكتّمون جداً ومحوطون بالسرّية، وأوفيدي لا تمتلك الأدلة الدامغة. في البداية، كان ثمة رجل أعمال ألماني يدعى فابيان تيلمان أسس "مانوين"، إلا أنّه تم توقيفه العام 2013 واتهامه بالتهرّب الضريبي، ما اضطره على بيع حصته. ويتبين من خلال المقابلات التي تجربها أوفيدي أنّ هذا الشخص لم يكن سوى بديل لأشخاص آخرين. فهناك تفاصيل لن نعلمها أبداً، على ما يبدو. في أي حال، هذا ما تلمح إليه أوفيدي. فهل وقعت في نظرية المؤامرة من شدة رغبتها في الانتقام، أم أنّ ما تقوله حقيقة؟ في الحالتين، يحتاج المُشاهد إلى عدد أكبر من الدلائل.


إنه، ببساطة، رأس المال عندما يتطفّل على كلّ شيء، وصولاً إلى الجنس. النتيجة مأسوية للكثيرين من صنّاع البورنو، ومنجم ذهب للبعض الآخر، تطبيقاً لمقولة "مصائب قوم عند قوم فوائد". مع ذلك، فالاطلاع على الجانب البائس من البورنو لا يهمّ العدد الأكبر من مستهلكيه، ذلك أنّ معرفة المزيد عما يشكّل مصدر فانتازم عندهم تقتل القابلية الجنسية. يعرف المتلقي في سرّه أنّ لا غلامور خلف ما يراه.
يأتي الفيلم على شكل رحلة، تتنقل فيها أوفيدي من عاصمة إلى أخرى. من الولايات المتحدة إلى رومانيا وتشيكيا، فالمجر التي تُعتبر عاصمتها بودابيست معقل البورنو في أوروبا، هناك حيث يصوّر روكّو سيفريدي أفلامه (له إطلالة قصيرة في الفيلم)، حيث الأوروبيات الشرقيات الحسناوات متوافرات بكثرة، والقوانين ليّنة والمجتمع متسامح. صحيح أنّ كواليس البورنو شكّلت مادة دسمة للنقاش والمحاكمة في عدد من الأفلام، لا سيما "مطلوب فتيات مثيرات" لجيل باور ورونا غرادوس (2015)، إلا أنّ أوفيدي تنقّب أعمق من الذين سبقوها. ففيلمها الذي يتبنّى شكل الثريللر، يقتحم بجزء منه حياة الممثلات (ليتها ركّزت أكثر على هذا الجانب)، اللواتي تتقبّلن العمل في ظروف غير لائقة أحياناً، الأمر الذي ينعكس سلباً على صحتهن، مثل الرضوخ لعدم استعمال الواقي الذكري أو ممارسة الجنس بوضعيات تسبب لهنّ النزيف، إلخ. بطرحها النسوي المنضبط، تُرينا أوفيدي كيف اختفت أسماء هؤلاء الفتيات فأصبحن مجرد ايتيكت: مراهقات، شقراوات، منتفخات الصدر، سحاقيات، ناضجات... هكذا يعرّف النيو بورنو المرأة للمستهلك.


شركات كـ"دورسيل" الفرنسية مثلاً، تبدي بوضوح انزعاجها على لسان صاحبها غريغوري دورسيل الذي يتكلم من أحد شواطئ كانّ، عن تعثّر أعماله وانحصارها، شأنها شأن أعمال 70 في المئة من الإنتاج التقليدي، ذلك أنّ انتشار معدّات التصوير الرخيصة وصعود نجم ما يُعرف بالـ"غونزو" (بورنو مصوَّر بكاميرا محمولة ولا يتضمّن أي قصّة)، يسمحان لأيّ كان أن يرتجل مخرجاً. حتى إنّ شخصاً مثل الفرنسي بيار وودمان، نراه يصوّر فيلماً بمفرده، محتكراً كلّ الأدوار من المخرج إلى المصوّر فالمونتير، بهدف تقليص النفقات.


قصص بؤس واستغلال كثيرة تطوف على السطح: رومانيات يعملن "بيب شو" في موقع "لايف جاسمن" مقابل فتافيت، على الرغم من أنّ الشركة تحقق أرباحاً بالملايين. إلا أنّه كان الأجدر بالفيلم ألا يترك خارج دائرة النقد تلك الشركات التقليدية التي لم تستطع مواكبة التطوّر، فتركت الساحة للدخلاء، بدلاً من التركيز على مواقع القرصنة وتصويرها كشرّ مطلق. ولكن ما يغفر لأوفيدي هو طرحها لفكرة غير مسبوقة نابعة من تجربتها الشخصية: بأيّ حق يستغل الانترنت ممثلين اعتزلوا البورنو ولا يريدون أن تبقى صورتهم في الفضاء العام؟ 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم