الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

القوة الناعمة... تابع

المصدر: "النهار"
طارق عينترازي- تورونتو
القوة الناعمة... تابع
القوة الناعمة... تابع
A+ A-

علّق بعض الأصدقاء على موضوع القوة الناعمة بالقول إن الحديث عنها في ظلّ قعقعة السلاح وخطابات النصر تصمّ الآذان، تشبه الى حد كبير أوركسترا سفينة "التايتانك" التي يروى انها استمرت بالعزف حتى اللحظات الأخيرة بينما كانت السفينة العملاقة تغرق مع ضحاياها الـ 1100.


 


للأمانة يجب القول انه يصعب تخيّل تأثير القوة الناعمة وسط المعارك جنون برابرة "داعش" وأخواته في صيدنايا وتدمر.
إلا انه من المهم إيراد بعض الإحصائيات لكي يطلع عليها المبشرون بنهاية العصر الأميركي وبداية عصر الانتصارات لمحور من هنا أو هناك.
كنت من الذين آمنوا بأن شبكة الانترنت تمكنت من "دمقرطة" "democratization" صناعة المحتوى والترفيه بحيث اصبح من الممكن لأي كان انتاج فيديو أو أغنية على هاتفه الخاص او كمبيوتره الشخصي بدون اي كلفة. وهذه السهولة كانت ستؤدي (نظرياً على الاقل) الى خلق لاعبين جدد كل يوم قادرين على المنافسة على انتباه المشاهد والمستمع. الا أن بعد أكثر من عقد على انتشار تكنولوجيا الانتاج الرقمي عبر أجهزة الهاتف الذكية، تشير إحصائيات عام 2016 بأن 5 مجموعات أميركية لانتاج المحتوى تستحوذ على أكثر من 90 في المئة من نسبة المشاهدة العالمية. في ما يلي عينة من هذه الإحصائيات:



1. من آلاف الافلام السينمائية المنتجة عالميأ حيث تستحوذ بوليوود الهندية ونوليود النيجيرية على نحو 2500 فيلم بقيمة مالية تتجاوز الـ 7 مليارات دولار أميركي بحسب تقرير "دي أي بيزنس دفلوبمنت" وهي شركة استشارات هولندية. بالمقابل، فإن هوليوود أنتجت نحو 700 فيلم خلال عام 2016 بقيمة تتجاوز الـ 50 مليار دولار أميركي.
2. ذكر تقرير نشر في مجلة "الإيكونوميست" بتاريخ 11 شباط 2017 ان اكثر خمسة أفلام مشاهدة في العالم أجمع خلال عام 2016 كانت من انتاج ديزني بحيث حصدت هذه الافلام اكثر من 20% من ايرادات شباك التذاكر العالمية.
3. صناعة الموسيقى تواجِه  الوضع نفسه بحيث تشير إحصائيات شركة "نيلسن" في أميركا ان 8.7 ملايين أغنية موجودة على الانترنت تم شراؤها مرة واحدة، 3.5 ملايين أغنية من هذه الأغاني تم شراؤها مئة مرة أو أقل، بينما 3.5 ملايين أغنية (ما يعادل 40% من مجموع الاغاني الموجودة على الانترنت) لم يتم شراؤها ابداً.
4. في عام 2016 من بين 92 بليون (وليس مليوناً) مشاهدة للأغاني على الانترنت حازت أول 1000 اغنية 23% من المجموع العام!


 


فرص لا تزال موجودة


تأملوا التأثير الثقافي والاجتماعي لصناعة الترفيه الغربية هذه على شعوب العالم ودوله. وهذا التأثير يتضاعف حين يكون الطرف المتلقي يعاني قحطاً ثقافياً مثل الذي يعانيه العالم العربي والإسلامي. فإذا كان خيار المشاهد العربي أو اللبناني عموماً، والمشاهد الشاب خصوصاً، بين أخبار القتل والفساد والبرامج الحوارية السياسية الممجوجة وبين مادة تلفزيونية أو سينمائية أو موسيقية منتجة بأحدث التقنيات، فعلامَ سيقع الخيار؟ بالتالي فإن اغنية أو مقطوعة موسيقية أو شركة انتاج تلفزيوني ناجحة تؤثر على الرأي العام والمجتمع أكثر من آلاف الصواريخ والجنود.


مقارنةً، فإن حجم سوق الانتاج اللبناني يقدر بأقل من عشرة انتاجات درامية في التلفزيون وعدد قليل جداً من الافلام السينمائية في العام. أما انتاج المنوعات والبرامج الكوميدية الخفيفة فهو الأكثر كثافةً ويمكن القول انه الاكثر نجاحاً محلياً على الاقل. ان هذه البرامج قادرة على استقطاب الجمهور العربي وليس اللبناني فقط عبر تقوية فرق الإعداد والبحث. فبرامج "التوك شو" والكوميديا بحاجة إلى فرق إعداد غنية بالمواهب وقادرة على استقطاب الكوادر الشابة القادرة على ابداع مادة تلفزيونية مميزة. أقول ذلك للتأكيد بأن الفرصة لا تزال موجودة لإنقاذ الاعلام اللبناني.


 


فرص ضائعة


وللتذكير بالفرص الضائعة، أذكر بأن مجموعة "أم بي سي" حين قررت الانتقال من لندن الى المنطقة كان لبنان الخيار الاول، وتم شراء عقار بمنطقة الحازمية لاقامة مركز للمجموعة واستوديوات للانتاج. الّا ان البعض شن حملة على المشروع متهماً الرئيس الشهيد رفيق الحريري بتشجيع الاعلام السعودي على السيطرة على السوق الاعلامي والإعلاني اللبناني. هذه الحملة دفعت "أم بي سي" الى اعتماد دبي كمركز لعملياتها. "ام بي سي" كان بامكانها خلق دينامية اعلامية واقتصادية وإضافة الاف فرص العمل في الاعلام والفنادق والمطاعم وشركات الطيران وكل القطاعات التي تدخل بصناعة المحتوى. لا بأس... فرصة مهدورة أخرى. المهم ان نتعلم!


فبالرغم من الحجم الخيالي للمجموعات الاميركية مثل "ديزني" و"تايم وارنر" و"نتفليكس" و "اتش بي أو" نجدها تجتهد لتندمج مع بعض أو مع شركات الهاتف والانترنت. فمنذ اسبوعين وافقت الجمعية العمومية لـ "تايم وارنر" و AT&T على اقتراح الاندماج لخلق كيان إعلامي يتجاوز حجم أعماله الـ 100 مليار دولار! ويأتي هذا بعد لائحة طويلة من عمليات الاستحواذ والاندماج بين عمالقة صناعة الترفيه والاعلام وآخرها اقتراح "21 سنتشوري فوكس" لشراء كامل عمليات "سكاي" في بريطانيا مقابل 14.3 مليار دولار. وقد ذكر تقرير Berkery Noyes، وهو أحد البنوك المتخصصة بعمليات الدمج والاستحواذ، ان مجمل حجم عمليات الدمج والاستحواذ في قطاع الاعلام بلغ 272 مليار دولار عام 2016 فقط.


ولبعض من يظن انه قادر على المنافسة والاستمرار وحيداً، أرجو منه الالتفات الى حجم صناعة الاعلام في المنطقة والعالم. فحجم أعمال مجموعة إعلامية واحدة وهي "أم بي سي" تجاوز المليار دولار العام الماضي. بينما يتناتش الاعلام المحلي على سوق لا يتجاوز الـ 100 مليون دولار.


لذلك فإعلامنا المليء بالكوادر والذي بمعظمه غير قادر على دفع أجور موظفيه، يجب ان يتبنى مشاريع خلاقة لاعادة الهيكلة والهندسة المالية تضمن استمراريته وتحصنه مالياً وتمكنه من العودة الى المنافسة في أسواق المنطقة العربية. وخطة إعادة الهيكلة لا تعني بالضرورة اقفال محطات او صحف. فيمكن الإبقاء على (brand name) ولكن دمج واعادة هيكلة البنية التحتية لهذه الشركات، من إدارة مالية وقانونية وموارد بشرية وعمليات بث وإنتاج... إلخ. تجدر الاشارة الى أن هذه الاستراتيجية ليست جديدة أو مبتكرة، فهي الاسلوب المتبع لعمل معظم المجموعات الاعلامية في المنطقة والعالم، إن لم يكن جميعها.


 


بذرة يمكن ان تنمو


ليتخيّل قياديو الاعلام اللبناني تخليهم عن جزء من استقلاليتهم الادارية والمالية مقابل تحقيق استقلالية مالية حقيقية تغنيهم عن الاستزلام لسياسي من هنا، وتيار من هناك أو لطبقة سياسية أوصلت لبنان الى ما نحن فيه. الوضع الصحيح والهدف الذي يجب تحقيقه هو أن يعود للاعلام سطوة على الطبقة السياسية كما كان في ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي. فقوة الاعلام هي بذرة يمكن ان تنمو لتصبح تياراً اصلاحياً جارفاً يمكن أن يعيد إيماننا بالدولة اللبنانية.


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم