الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

"نرسيس" مسرحية عبثيّة بين الواقع المظلم ووهم الانتظار \r\nكتبها ديمتري ملكي وأخرجها شادي الهبر

مي منسى
"نرسيس" مسرحية عبثيّة بين الواقع المظلم ووهم الانتظار \r\nكتبها ديمتري ملكي وأخرجها شادي الهبر
"نرسيس" مسرحية عبثيّة بين الواقع المظلم ووهم الانتظار \r\nكتبها ديمتري ملكي وأخرجها شادي الهبر
A+ A-

على خشبة "مسرح مونو"، تتعدد الأدوار بين مايا سبعلي ووليد جابر. حوار مفكّك، صمت طويل، نسمعه صراخاً جوفيّاً، ذكريات متراكبة في الزمان والأمكنة المختلفة، نبرة الصوت تتنقل بالمرأة على مراحل من عمرها، تارة صوت عجوز في إطلالتها المتسكّعة، ملتفة بمعطف مزركش، أدمنت المجيء إلى هذا المقعد، تنتظر إطلالة نرسيس من الأفق البعيد، ومعه الوعد، وطوراً صوت من الماضي وذكرياته.
على المقعد الخشبي شاب بلباس القتال، أدمن هو أيضاً هذا الانتظار، يفرد للمرأة مكاناً بجانبه. فارق السن يزول ما داما يحدّقان في اتجاه واحد، ومعاً ينتظران الآتي، المخلّص من العدم. أما الحوار الناصل من خيط يجمع بينهما، فلا يعوق الخلل النابع من نفسين تائهتين في مجهول الوجود.
"نرسيس"، كما تخيّلها ديمتري ملكي نصاً لمسرح عبثي، تقوم على مسارّة لشخصين تائهين بين اليأس والأمل، يجترّان ذكريات سوداء من الماضي، وعلى هذا المقعد الخشبي ينتظران فرجاً آتياً لا محالة: "نرسيس". الحوار بشرذماته، وصمته، بين هذين المتسكّعين على رجاء مستحيل، أعادنا إلى مسرحية صموئيل بيكيت، "في انتظار غودو"، وفي هذا الانتظار، تعبر بين المرأة العجوز والشاب سحابات خاطفة، متقطّعة، من أمور عاشها كل منهما، وليل الحرب، أكثر من سواه، ظلمة وخوفاً.
على صوت أسمهان تغني "دخلت مرّة فجنينة" تدخل مايا سبعلي، وتمشي هنيهات في الظل، متدثّرة بمعطفها المزركش، إلى ان ينحصر الضوء على مقعد خشبي، يستلقي عليه شاب ببدلة القتال في حال من الترقّب. بينه وبين العجوز المتقدّمة من المقعد فارق كبير في السن، تريد مزاحمته على المقعد ويرفض. المكان يتّسع لمتسكّعين. بينهما أسئلة هجينة، يكرّرانها كلّما أخذهما هذا المقعد في رتابة الانتظار: هي: "هل من خبر جديد؟"، تسأل الشاب الجالس لا يحكي. "أنت كمان ناطر حداً"، "كل يوم بجي لهون". هو: "مش راح تقعدي؟". هي: "الناس ناطرين متلك ومتلي". هو: "ما في حدا غيرنا".
في هذا الانتظار، حرّك المخرج شادي الهبر الذكريات ومن ذيولها المتقطّعة صرنا نتخيّل مراحل مسرعة من حياة المرأة والشاب. الكلمات المبهمة، التي لا جدوى منها في هذا السيل من العبارات الباطلة التي كانا يتناوبان عليها، كل من ذكرياته وخوفه، المتقطّعة بصمت طويل، في تمعّننا بكل شاردة وواردة، لا بد أن نلمس حقيقة كل منا، فهذا الخوف، هذه الهلوسات، هذا الدوي الذي تركت الراجمات صداه في دماغنا، هذا نحن، بعبثّيتنا ولجوء كل كائن في هذا الوجود إلى الوهم، علّه يشفى من آفة الضحيّة والجلاّد.
"نرسيس" هذا الوهم اللبناني، الذي عليه بنى هذان المتسكّعان، فسحة من رجاء، هو من شغل الوطن، وإن تراءت لنا بجوهرها اقتباساً من تحفة بيكيت "في انتظار غودو".
"كيف أصبحنا وحيدين؟"، "أهي رغباتنا الحقيقة المختفية وراء ابتسامات، أهي الذنوب، الحرب، الخوف، الضجيج، الأقنعة، الموت...؟"، أسئلة كانت ربما الدافع لجلوسهما على هذا المقعد في انتظار "نرسيس" حدثاً جديداً في حياتهما.
مايا سبعلي ماهرة في تشغيل مواهبها التمثيلية حيث بلفتة ثوانٍ، تنتقل من عجوز إلى طفلة تنام على قصص الأميرة والساحرة، ثم صبيّة ترقص على إيقاع الفالس بين ذراعي حبيب، هو ذاته ذلك الشاب الذي كان منذ هنيهات، يكيّل سأم حياته على ثواني انتظار "نرسيس". العجوز تغدو صبيّة في مقتبل العمر، تغري الشاب الجالس بجانبها. تتذكّر الحب والفراق، تختنق حين تأتي على ذكر الحرب والخوف والموت. الشاب الجالس ببدلة القتال لا يحرّك ساكناً في البداية، يستمع إليها، تفرد مراحل العمر على خط معاكس لتقويمة الزمن. هو أيضاً له ما يقوله: "شفت صبي لابسلي كنزتي اللي حيّكتها أمي بالصوف". كأنها لا تسمع، إذ تسأله: "كم الساعة؟". يجيب "ما بعرف". ثم ومن غير أن ينظر إليها، يخاطب أمّه "أمي زعلانة منّي؟"، فتجيبه "ليش بدي إزعل منّك؟". "أمي أنا عايش ومش عايش"، تغمره إلى قلبها "إنت إبني". يرتفع صوت يرتّل "اليوم علّق على خشبة". جميل المشهد، من أجمل ما حاكته هذه المسرحية. مريم الأم الثكلى فردت شعرها وبالصمت ارتفع عويلها، فيما الإبن قبالتها، رسم جسده على شكل صليب.
لماذا نرسيس الحامل الحلم على أمل أن يصبح حقيقة؟
شادي الهبر، بعد قراءته مسرحية "نرسيس" لمؤلّفها ديمتري ملكي وجد أنها تطرح موضوع الحرب، بعيداً من السياسة والخنادق والرصاص، لتلامس الأحاسيس الإنسانية."
المرأة العجوز في نظراتها المبحرة إلى البعيد تراه: "هيدا إنت"، تقول للشاب. "أنا؟". "هيدا إنت نرسيس، بالمي". "معك حق هيدا أنا". وتهم بالرحيل: "شو راجعة بكرا؟". "وإنت؟"، "أكيد".


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم