الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

برلين ٦٧- الفنّ بهواجسه المتعدّدة: ثائر، ملتزم، باحث عن الكمال...

المصدر: "النهار"
برلين ٦٧- الفنّ بهواجسه المتعدّدة: ثائر، ملتزم، باحث عن الكمال...
برلين ٦٧- الفنّ بهواجسه المتعدّدة: ثائر، ملتزم، باحث عن الكمال...
A+ A-

منذ انطلاق الطبعة الحالية من #مهرجان_برلين (٩ - ١٩ الجاري)، احتلّ موضوع الفنّ بهواجسه المتعدّدة موقعاً متقدّماً. فيلم الافتتاح "دجانغو" للفرنسي اتيان كومار، جاء إلى المدينة الباردة بحكاية عازف الجاز الغجري دجانغو رنهاردت الذي كان يضطر، وفق نصّ كومار، أن يعزف للنازيين رغم كراهيته الشديدة لهم. في "بورتريه نهائي"، المعروض خارج المسابقة، صوّر الأميركي ستانلي توتشي، أيضاً في باريس وببساطة شديدة، بضعة أيام من حياة الرسّام والنحّات السويسري ألبرتو جياكوميتّي. نكتشف الأسبوعين اللذين رسم خلالهما - أو حاول رسم - بورتريه مؤلّف أميركي شاب كان يزور العاصمة الفرنسية فنشأت بينهما علاقة صداقة. أما الفيلم الثالث الذي يفرد مساحة كبيرة للتحدّث عن الفنّ، كنتاج فلسفي وفعل سياسي وعمل ثوري، فهو "بويز"، للألماني أندريس فيل، الذي يستعيد مراحل من حياة وإبداعات الفنان المعاصر الألماني جوزف بويز، صاحب قول أنّ "كلّ إنسان هو فنان". الفنانون الثلاثة (رنهاردت وجياكوميتّي وبويز) عاشوا في القرن الماضي وماتوا خلاله، ولا يزال نتاجهم محلّ احترام ودهشة في العالم. رغم أنّ #السينما لا يزال لديها ما تقوله عنهم، فاللغة المستخدمة في نقل شذرات من تجربتهم (الأفلام الثلاثة ليست سيرة بالمعنى التقليدي)، لا ترتقي البتة إلى أهمية لغتهم، سواء في الموسيقى أو الرسم أو ما يُعرف بـ"الفنّ المعاصر".


في "دجانغو" (مسابقة)، نعود إلى سنوات احتلال ألمانيا لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية. يومها، كان دجانغو رنهاردت (١٩١٠ - ١٩٥٣) العازف المنتمي إلى جماعة الـ"مانوش"، في قمّة مجده وعطائه. يعشقه الضبّاط الألمان ويستهويهم الاستماع إلى ألحانه، ولا يبخلون عليه. إلا أنّ دجانغو ليس كأي فنان. معضلة الرجل أنّه حمل روحاً معذّبة كونه شهد أبناء جلدته الغجر وهم يتعرضون للاضطهاد والقتل على يد النازيين أنفسهم الذين كانوا يحتفون بعبقريته الموسيقية. كانت التعليمات الموجّهة إليه من الضبّاط الألمان واضحة وصارمة: لا جاز تُذكّر بالسود، لا "سوينع" ولا ارتجال لفترة طويلة، فقط موسيقى تليق بالعرق الآري. ولكن عندما يُطلب منه الذهاب إلى برلين لإحياء حفل أمام هتلر، فهنا يقرّر الهرب إلى سويسرا بمساعدة إحدى معجباته.


لا يقدّم كومار صورة تمجيدية لرنهاردت، فهو فنّان لا يريد شيئاً سوى العزف، إلا أنّه يجد نفسه في معركة مع سلطة لا ترحم، تضع له حدوداً وتخاف تأثيره في الناس، فيصبح دجانغو مقاوماً رغماً عنه. لا يلتزم الفيلم حرفياً الحقائق التاريخية، ولا يتحوّل في أي لحظة إلى دراما عن مأساة الغجر. وظيفته الأولى إظهار علاقة الفنان بالسُلطة، علاقة فنان يرفض التطبيع. موضوع راهن، وإن ليس حكراً على زمن معيّن. إنجاز دجانغو، خارج إطار مؤلفاته الموسيقية، هو عدم الاستسلام نهائياً لضغوط القوي والتحوّل منتفعاً يمشي مع الحاكم. مرة بعد مرة، يدرك أنّ الحياد الذي كان ينتهجه في البداية غير ممكن، وستكون نتائجه وخيمة.


هذا الفيلم الأول لكومار الذي عُرف ككاتب حوارات ومنتج فيلم "رجال وآلهة" لكزافييه بوفوا. يمكن القول إنّه لم يختر مشروعاً سهلاً لينطلق منه، فـ"فيلم الحقبة" يأتي بقدر غير قليل من المطبّات التي، حتى كبار السينمائيين، لا ينجحون أحياناً في تلافيها. علّة الفيلم الأساسية هي أنّه لا يعرف أيّ المسائل يريد تناولها. هل هو فيلم عن علاقة الفنّ بالحكم؟ أم أنّه عن مأساة الغجر؟ أو عن رنهاردت نفسه؟ في الحقيقة، ثمة القليل من هذا كله. ثم، هناك الإيقاع الذي يتعثّر في منتصف الفيلم، قبل أن يعود ويشتدّ في نهايته. رضا كاتب يقدّم أداء مقنعاً في دور رنهاردت، أما النمر الموسيقية، فهي تضمن بعض البهجة ضمن فيلم تقف فوقه الكآبة كغيمة تتردّد في إفراغ محتواها.


[[video source=youtube id=e3I8X6WfeAs]]


 "بويز" للألماني أندريس فيل هو الوثائقي الوحيد داخل المسابقة الرسمية. وهو أكثر فيلم يذهب بعيداً في محاولة تعريف الفنّ وطرح احتمالاته المتعدّدة. قد يسأل أحدنا لماذا ضمّت إدارة المهرجان فيلماً يتألّف حصرياً من صور الأرشيف إلى المسابقة، إلا أنّ مشاهدته توفر ردّاً مقنعاً: هذا فيلم يعبّر عن الفنّ الملتزم والهادف، الخطّ الذي لطالما انتصر له الـ"برليناله". الفنان المعاصر جوزف بويز (١٩٢١ - ١٩٨٦)، صاحب نظرية "النحت الاجتماعي"، قامة ثقافية يطرح الفيلم من خلالها علاقة الفنّ بالسلطة التي يمارسها على المجتمع. إذا كان دجانغو يدرك سلطته كفنان إدراكاً غريزياً ويستخدمها لمحاربة الألمان، فلبويز فلسفة كاملة شاملة يعرضها بكلّ تفاصيلها. من خلال الامتدادات السياسية والاجتماعية والفكرية لعمله الذي ذاع صيته عالمياً وأحدث جدلاً مهماً في الأوساط الثقافية، ننزلق في عقل فنان، لكلّ منحوتة وكلّ تجهيز له صوت وصدى وحكاية وموقف.


شغل المونتاج هائل يحرص على إعادة لمّ شمل أشياء الفنان وتركيب أجزاء من حياته الموزّعة في إطلالاته التلفزيونية. نكتشف أعمالاً صنعت مجد بويز: سيارة الفولكسفاغن الشهيرة التي تزحف منها عربات تزّلج. أو "أحبّ أميركا وأميركا تحبني": أداء يتمثّل في أن يضع نفسه في نوع من زنزانة خلال ثلاثة أيام مع ذئب من تكساس، والهدف منه تسجيل موقف من المجازر التي تعرّض لها الهنود الأميركيون. بويز يرفض حتى أن يطئ أرض أميركا، تعبيراً عن رفضه للتدخل الأميركي في فيتنام. من أجل تقديم هذا الأداء، ثمة سيارة إسعاف تقلّه من مطار كينيدي إلى زنزانته. نكتشف له أيضاً "٧٠٠٠ شجرة بلوط"، مشروعه الهادف إلى تحسين البيئة. بالنسبة إلى بويز، الفنّ عمل جماعي يشارك فيه الكلّ، وليس محصوراً ببعض المحظوظين. إنه مشروع اجتماعي يفيد الناس، لا يلهث خلف الجمال بقدر ما يسعى إلى التغيير. طبعاً، هذا كله موضوع سجالات كبيرة يشهد الفيلم على بعضها. "بويز" يأتي برؤية غير كلاسيكية للفنّ، تلك التي تطلب من الفنان التزاماً كاملاً بقضايا بيئته.


 [[video source=youtube id=prHKlxozk10]]


 في "بورتريه نهائي" لستانلي توتشي، ثمة بساطة أكبر في طرح الموضوع، ولكنها بساطة تترك المُشاهد جائعاً للمزيد، كونه يحتاج إلى تنقيب أعمق في الحيّز الذي يعالجه. يقارب توتشي الفنّ من جانب آخر: شخصية الفنان التي تساهم في ابتكار فنّه. المقاربة التي يأتي بها لشخصية ألبرتو جياكوميتّي (١٩٠١ - ١٩٦٦)، وهو في خريف عمره، تُقحمنا في كواليس المخاض الفني. جياكوميتّي الذي يضطلع بدوره جفري راش، مضيفاً الكثير من خفّة الدم على الشخصية، لا يعرف اليقين. كلّ شيء لديه مزعزع. ريشته وهي ترسم كاتباً أميركياً، تُخرّب ما رسمته بقدر ما ترسم. فهم توتشي أهمية عنصر الوقت في الفنّ، فلم يبخل على المتفرّج بلقطات متكرّرة لجياكوميتّي وهو يحاول رسم شيء يعتبره بلا نهاية. فكيف يتم التقاط هذا الشيء الذي لا ينتهي في فيلم إطاره محكوم بالزمن، هنا معضلة توتشي الذي ربما أضاع قليلاً هذه الفكرة العبقرية، إذ أغرته كثيراً قوة كاراكتير فنان عجوز يصنع وجوهاً مشوّهة في مشغله الباريسي حيث تسود الفوضى.


لا ندخل كثيراً في باطن جياكوميتّي، له بضعة آراء عن بيكاسو يقولها وهو يتمشّى مع صديقه الأميركي في المقابر. نعلم كذلك أنّه يعتبر سيزان آخر العظماء في التشكيل. في المقابل، نكتشف فناناً لا يعجبه اليوم ما رسمه في الأمس، يقترب من المساحة البيضاء برِجل إلى الخلف ورِجل إلى الأمام، غير متأكد من أي شيء يباشره، وهذه سمة من سمات المتفوّقين. في النهاية، هذا فيلم عن ذاتية الفنّ، فاللوحة التي سنراها مراراً ليست بالضرورة تلك التي يراها جياكوميتّي. "بورتريه نهائي" يقول إنّ الكمال في الفنّ غير موجود، والمحاولة المتكرّرة للاقتراب منه ليست سوى غذاء يومي يضمن استمرار الفنان، رغم عجزه.


[[video source=youtube id=2j75HGZcqXg]]


 


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم