الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

برلين ٦٧- كوريسماكي الشاعر يخاطب كوريسماكي صاحب الرسالة

برلين ٦٧- كوريسماكي الشاعر يخاطب كوريسماكي صاحب الرسالة
برلين ٦٧- كوريسماكي الشاعر يخاطب كوريسماكي صاحب الرسالة
A+ A-

آكي كوريسماكي يعود إلى سينماه بعد ستّ سنوات انقطاع وتأمل. يحلو لنا تخيّله وهو يكتب سيناريو فيلمه بعين تسهر على نشرة الأخبار وبيد تحمل كأس ويسكي. فـ"الجانب الآخر للأمل" ينمّ عن خليط من الواقع ومحاولة الهروب منه. إنّها أيضاً عودة إلى المبادئ الإنسانية التي لطالما تغذّت منها أفلامه. جديده إذاً عُرض صباح الثلثاء أمام الصحافة العالمية، وهو يتسابق على "الدبّ الذهب"، أرفع جائزة تُمنح في #مهرجان_برلين السينمائي (٩ - ١٩ الجاري). كوريسماكي، كغيره من المؤلفين الأوروبيين الكبار، يتفاعل مع الراهن ومع ما يجري في العالم، خصوصاً في محيطه الذي تأثّر في السنوات الأخيرة بما يحدث في سوريا والعراق وغيرهما من البلدان التي تشهد قتالاً وحروباً وإرهاباً، فكانت النتيجة المباشرة توجّه العديد من المهاجرين إلى فنلندا لطلب اللجوء. إلا أنّه ثمة حقيقة علينا ألا ننساها، هي أنّ المخرج الفنلندي لا ينتهز الفرصة لركوب الموجة. فهو أولاً خارج أي موضة أو صيحة، سينماه تطوّرت وفق قواعد ومنطق وجماليات خاصة بها، راصدةً بيئة جامدة مغلقة. ثانياً، "الجانب الآخر للأمل"، هو جزء ثانٍ لما يعتبره كوريسماكي "ثلاثية الهجرة" التي بدأها مع "لو هافر" (معاناة مهاجر أفريقي في مدينة "لو هافر" الفرنسية)، العام ٢٠١١. ثالثاً وأخيراً، يتوخى الدقّة في تخيّل حكاية اللاجئ ونقل سيرة اللجوء إلى الشاشة. هذا كله يكفي لتبييض صفحته والنظر إلى الفيلم بتجرد وفق قيمته السينمائية فقط.


 


[[video source=youtube id=G0acuf5QvT0]]


 


في المؤتمر الصحافي الذي عقده كوريسماكي في برلين بعد ظهر الثلثاء، سأل: "أين راحت إنسانيتنا؟"، قائلاً إنه ينوي بهذا الفيلم أن يغيّر العالم ويغيّر المناخ المعادي للمهاجرين السائد في أوروبا، وهو مصمّم على هذا "حتى لو شاهد فيلمه ثلاثة أشخاص". ولعلّ أهم ما قام به كوريسماكي في هذا الفيلم هو إعطاء وجه وصوت وتفاصيل حقيقية للاجئ، طارحاً إياه في اعتباره شخصاً عادياً يفرح ويحزن ويحاول الانتقال إلى الجانب الآخر للأمل. ببساطة: كائن لا يبحث إلا عن حياة كريمة وهي حقّ الجميع. وللمزيد من الدقّة والصدق، أسند دور اللاجئ إلى السوري شيروان حاجي (٣١ عاماً) الذي وصل إلى فنلندا في العام ٢٠١١، أي قبل موجة الهجرة الحالية، بعدما تعرّف إلى فتاة فنلندية في دمشق. حاجي الذي درس التمثيل، يتكلّم في الفيلم بالعربية مع عراقي آخر يلتقيه خلال الانتظار للحصول على اللجوء. ومع الفنلنديين يتواصل بالإنكليزية.


هي حكاية عادية للاجئ سوري يصل إلى هلسينكي على متن باخرة، بعدما طمر نفسه في الفحم. ولكن مع كوريسماكي لا شيء عادياً، فهو بليغ في قدرته على جعل الآخرين يطبّعون معه ومع عالمه السينمائي. الوافدون الجدد يتحرّكون مثلما تحرّكت دائماً شخصياته داخل الكادر، تاركين مسافة بين الفعل وردّ الفعل. وهناك في طبيعة الحال، كلّ تلك الأشياء التي حفلت بها أفلامه: أثاث البيوت الكيتش والعتيق التي أكل عليها الدهر وشرب، الوجوه الحائرة المتردّدة، الكادر الخانق، الأجواء الرمادية الكئيبة. إلى هذا الديكور، يدخل خالد حسين، الشاب السوري الذي هرب من مدينته حلب، بعدما قضت كلّ عائلته، عدا اخته التي فقد كلّ أثر لها. بعد فترة من الانتظار في المخيم، تضعه المصادفة على طريق رجل غريب (سكاري كيوسمانن) افتتح لتوّه مطعماً. فلكم أن تتخيلوا ماذا سيفعل كوريسماكي بهذا كله، وأيّ معزوفة "شاذة" سيؤلّفها انطلاقاً من نوتات موسيقية يعرفها غيباً. هو الذي يحلم بعالم أفضل...


استناداً إلى تيمة تعزّ عليه، وهي التكاتف البشري، يصوّر كوريسماكي شخوصاً تتساوى أحوالهم، وإن وفدوا من بيئات مختلفة. في مقدّمهم تاجر القمصان الذي يترك زوجته (هي أيضاً تحلم بالرحيل إلى مكان آخر)، ليبدأ حياةً جديدة ومهنة أخرى (المطعم)، تماماً كاللاجئ الذي يحاول البدء من الصفر. في ظلّ تلكؤ السلطات لمنح خالد صفة اللاجئ واعتبار سوريا مكاناً آمناً (رغم إننا نرى التلفزيون الفنلندي يقول عكس ذلك)، يصبح المطعم مكان شراكة وتعاون وتضامن، ولكن ليس من دون أن يطعّم كوريسماكي فكرته الصغيرة عن التضامن البشري بالمواقف الهزلية المينيمالية المتأصّلة في "هيومر" شمال أوروبي تفوح منه رائحة الخمر. اللافت أنّ معلّمنا الفنلندي، الحنون إلى أقصى درجة مع شخصياته، يجد الحكاية المناسبة ليُجري توازناً يُنصف كلّ الأطراف. ففي مقابل العنصريين الذين يتعرّضون بالأذى إلى خالد، ثمة مَن يتضامن معه ويساعده للبقاء في فنلندا. هؤلاء أبطال رغماً عنهم في سينما كوريسماكي. هذا جوهر الفيلم الذي لا يخفي التزامه قضية الساعة، إلا أنّ كوريسماكي يعرف جيداً كيف يبتعد من الخطاب ليقدّم سينما كاملة متكاملة. والتشابه في الحال بين السوري والفنلندي يبلغ ذروته في مشهد المقامرة، عندما يضع الفنلندي الذي ملّ واقعه كلّ مستقبله على الطاولة ويراهن عليه، خطوة مشابهة بما فعله خالد عندما قرّر المخاطرة والرحيل. من دون إيمان كبير بالإنسانية التي يذكّرنا بضرورة العودة إلى قيمها السامية، يدعو كوريسماكي إلى التقاط بعض أشعة الضوء التي تتسرّب من الظلام. وهو في ذلك شاعرٌ وسياسي!

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم