الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

أغار من المرأة لأنّها غيمة وأغار من الغيوم لأنّي لستُ هذه الغيوم

عقل العويط
عقل العويط
أغار من المرأة لأنّها غيمة وأغار من الغيوم لأنّي لستُ هذه الغيوم
أغار من المرأة لأنّها غيمة وأغار من الغيوم لأنّي لستُ هذه الغيوم
A+ A-

إذا كنتُ أعشق الغيوم فلأنّها امرأة. وإذا كنتُ أعشق المرأة فلأنّها غيوم. لا أعرف لماذا أربط بين المرأة والغيوم. لا أعرف لماذا أنا ضعيفٌ، لكنْ بلا حدود، في الآن نفسه، إلى الحدّ الذي يُشعِرني بغيابٍ يذوّبني تذويباً، ويُشعِرني بامتلاك المطلق امتلاكاً معنوياً لا قيد فيه ولا تسلّط. لو كان لي أيّها العالم أن أصف نفسي وأحوالها، لقلتُ إنّي ممتلئٌ ونهائيّ إلى حدّ الانخراط في البدايات والنهايات انخراطاً أوركسترالياً مهيباً لا يوازيه في القيمة إلاّ الحبّ الكبير والشعر الكبير. وأنا فيهما.


هل يجوز للكائن أن يتذمّر ويشتكي، إذا كان مغبوطاً مثلي بالغيوم، بالمرأة، بالحبّ الكبير، وبالشعر الكبير، وهؤلاء هم واحدٌ أحد؟ كلاّ. لا يجوز. وأقول: لا يجوز له البتّة. أخجل من نفسي لأنّي لا أكون في الأحيان كلّها، على هذه السويّة من الامتلاء والرحابة والشجاعة. هذه الحياة الكلبة تُجبِرني بين وقتٍ وآخر على أن أكون رهينها. وأنا لا يليق بي أن أكون رهيناً لشيءٍ، ولا لأحد. حتى لهذه الحياة نفسها. أيّها العالم، هذه الغيوم تجعلني أركع. بل تجعلني أرقص. بل تجعلني أهذي. بل تجعلني أكتب. بل تجعلني أموت الموتَ الذي هو ذروة الوجد وذروة الحياة. فماذا أريد أكثر؟! صدِّقوني، لا أنا أريد شيئاً على الإطلاق. أنا فقط أختفي.
اللواتي والذين لا يحبّون الغيوم، أطلب منهم الاعتذار، وأطلب منهم أن يرأفوا بي. وأن يحبّوني. أو أن يشفقوا عليَّ. لا أطلب منهم وظيفةً، ولا مالاً، ولا مكانةً، ولا تصفيقاً. فقط أن يقبلوا بوجودي. وأن يغضّوا الطرف عن أهوائي. وأن يمنعوا الموت عن هذه الغيوم.
لو كان لي أن أحلم لحلمتُ بأن أكون غيمة. ولو استطعتُ لصرتُ هذه الغيمة بالذات. ليس عندي رغبةٌ عميقةٌ وجارفةٌ وجامحة، أكثر من هذه الرغبة. فاجعليني أخاً لكِ أيّتها الغيوم، أو بالأحرى عشيقاً. بل أفضّل أن أكون العشيق لا الشقيق. وأفضّل أيّتها الغيوم أن أنتظركِ في اليقظة وفي الأرق، في الوجع وفي البحبوحة، في الموسيقي وفي اللون، في الفقر وفي الرفاه، في الشعر وفي النثر، وفي شعر النثر، وفي قصيدة النثر.
ولو كان لي أن أنتظر شيئاً أو أحداً، إلى الأبد، لأحببتُ أن أنتظركِ في الشتاء القاتل، وفي الصيف القاتل. وكم أكون غنيّاً إذا أتيح لي أن أنتظركِ في الربيع، وفي الخريف. وهذا الأخير هو حياتي المفضّلة، لأنّه الخريفُ الشاعرُ الخَفِرُ الأبيُّ النبيل، ولأنه يبشّر بالشتاء. ولأنّه يدعو له بالتوفيق.
وأنتِ أيّتها الغيوم، لا تأخذيني بالعلل التي تسيطر عليَّ، وتجتاحني، وهدفُها أن تخربط الموسيقى والجوقة الأروكسترالية. خذيني فقط بالحبّ الذي أنا هو. وحده هذا الحبّ الكبير يمكنه أن "يُقنِعكِ" بي.
وأنا مَن أنا؟! أنا مرآةٌ؛ محضُ مرآةٍ لكِ أيّتها الغيوم، وأنا مَعبرٌ، وإناءٌ، ومختبرٌ، وسريرٌ، وبيت. وأنا السماءُ لكِ، والهواءُ، واليدُ التي تحرقص خيالاتكِ الجامحة والخجولة. ويمكنني أن أكون لكِ الكلمة. والعينين الذاهلتَين. والحبر غير المكتوب. ماذا أنا أيضاً؟ تعرفين أنّه يمكنني أن أكون لا شيء. ولا أحد. من أجلكِ. يكفيني أن لا أكون، أن لا أكون شيئاً، أو أحداً، من أجل سموّكِ.
وأُحبّكِ. من غير مطلب. ومن غير مساكنة. فأنتِ أيّتها الغيوم لستِ شخصاً آخر. أنتِ أنايَ المنشودة والمرغوبة، التي في كلّ مكان. فمَن مثلي!؟
ولستُ محتاجاً أن أراكِ. إذ يكفيني أنّكِ موجودة، في مكانٍ ما من هذا الكوزموس. ولا بدّ من أنّي أعرف أنّكِ موجودةٌ لا بالحسّ، ولا بالشكل فحسب. بل أنتِ موجودةٌ بالعقل. وبالفلسفة. وأعرف خصوصاً أنّكِ تشبهين ما لا يُشَبَّه، ومَن لا يُشَبَّه. فهل يجوز بعد هذا كلّه، أن أحتاج إلى الجزئيّ، وأنا أعرف المطلق، المطلق كلّه الذي أنتِ، وبالذات؟!
وأنا أُحبّكِ فحسب. لا على طريقة الرومنطيقيين، ولا على طريقة البكّائين، ولا على طريقة المتشائمين، والسوداويين، من أهل التعاسة واليأس والشكوى والتذمّر. إسمعيني جيّداً أيّتها الغيوم: أنا أُحبّكِ، لأجل مَن أنتِ، وما أنتِ. ولولاكِ لما كنتُ قادراً على أن أحيا. وكم أغار منكِ. لأنّي أحتاج إلى أن أخطو خطوةٍ إضافيّة إلى أمام، أو إلى مرتبةٍ أعلى، كي أصيركِ تماماً. وكي "أنتقل" إليكِ. وأتخلّى.
وأعدكِ بأن أظلّ أُحبّكِ. لأنّ في مقدوري الهائل، منذ أن وُلدتُ، والآن، وإلى المنتهى، أن أظلّ أُحبّكِ، وكلّ يومٍ، أكثر أكثر. لأنّي لا أستطيع إلاّ أن أُحبّكِ. ولا أستطيع إلاّ أن أكون شبيهكِ في الأشكال والأحوال التي لا انتهاء لها. فأتيحي لي فقط أن أكونكِ. أو، في الأقلّ، أن أكون بعضكِ الذي أشاهده الآن، بعينيَّ، وبكياني كلّه، ويجعلني في الكون.
وكما بحتُ لكِ منذ البداية، فأنا أغار. أغار من المرأة لأنّها الغيمة، وأغار منكِ أيّتها الغيوم، لأنّي لستُ هذه الغيوم. فانتبهي إليَّ فقط. إنتبهي إلى هذا العشيق، يا عشيقتي الغيوم. ولا تتركيني هنا وحيداً في وحشة هذه الحياة الكلبة. واجعليني معكِ. أو انزلي قليلاً إلى حيث هنا، وأنا. وابتسمي لي. كي أستطيع أن أكمل الطريق.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم