الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

ميشال جبر حرّك التفل القابع في نفس المرأة بسؤال: "كيفك يا ليلى؟"

مي منسى
ميشال جبر حرّك التفل القابع في نفس المرأة بسؤال: "كيفك يا ليلى؟"
ميشال جبر حرّك التفل القابع في نفس المرأة بسؤال: "كيفك يا ليلى؟"
A+ A-

هذه ليلى، بقلم ميشال جبر وإخراجه. امرأة بفستانها الأحمر وشالها الفضي، اتّخذت خشبة "مسرح مونو" كرسياً للاعتراف، تروي منه مراحل حياتها السوداء، لا طلباً للصفح عن الذنوب الفادحة التي ارتكبتها، والشراهة التي أدمنتها على أكثر من صعيد، بل بإلقائها التهم على الجنس الذكوري، بدءاً من والدها، السبب الأوّل في فقدانها ثقتها بنفسها، والسير في الضلال حتى الغرق في لجج المخدرات والمعاشرات الدنيئة.


اعترافاتها الصادقة كتبها ميشال جبر بحذافير وجع المرأة وخيباتها وتيهها في المجهول. لكنّ المسرح ليس مدرسة إصلاحية ترمم الكسور، بل مختبر هو، يُرينا بالمجهر عيوبنا وزلاتنا. ففي نهاية العرض وليلى في الظلال الخافتة تقول "ما تغيّر شي"، نلمس رياء الكاتب، الذي عرّض ليلى للبوح العلني بحميميات حياتها المستترة وغير المستترة من دون أن يمنحها فرصة للملمة أسمال حياتها والخروج إلى الضوء بنيات سليمة تنقذها من لجج غرقها. أفيكون ميشال جبر الكاتب والمخرج، واحداً من مسلسل الذكور الذين صبّوا لعنة مميتة على قدر هذه المرأة، على فكرها وأحاسيسها، فكان المتّهم الأول في شلّ إرادتها، وحضّها على اقتراف مسارها الخاطئ. من ضحيّة واحدة صنع غير ضحية.
"كيفك يا ليلى" عنوان لطيف وأنيس، تحت صوفه الناعم صقيع وضياع. نيللي معتوق في دور ليلى، هي عكس الصورة المنفّرة للمخيّلة التي بنى ميشال جبر عليها عرضه. نيللي جميلة، رشيقة، اختصاصها العلوم الموسيقيّة والغناء الأوبرالي، لكنها برهافة وذكاء دخلت في بدن امرأة سمينة، جعلت الطعام هرباً من الواقع، والمخدرات إتلافاً لوخز الضمير الذي إن عذّبها طمشته بشفقتها على حالها: "أنا متل شجرة مرميّة بهالدني".
في العودة إلى النص، لا بد للمتلقّي من أن يستهجن التركيبة التي بنى منها الكاتب شخصيّة ليلى ومحيطها. فمنذ البداية وبتطفّلي الأنثوي على كل شاردة وواردة، صرت أرى تعارضاً في بنية الكتابة. الوالد هو الظالم الأول ما دام جوهر المسرحية يتمحور حول الجلاّد، أي الذكر، والضحية أي المرأة. فكيف يا ترى يكون الوالد جلاّداً بإخضاع ابنته للكف عن الشراهة كي تظلّ رشيقة ونحيفة؟ وكيف يكون وحشاً ضاريا، عندما يطلب منها أن تعزف رسالة بيتهوفن إلى إليز حبيبته: "صرت أكره بيتهوفن لإصرار والدي عليه. أكره الرومنسيّة، موزار الفرح اللعوب، خبّأ الوجع تحت الضحكة الرنّانة في مقطوعته "موسيقى صغيرة لليل". لقد ظلّ محافظاً على براءة الطفولة".
لا بدّ للمحلّلين النفسيّين في اكبابهم على نص "كيفك يا ليلى" من أن يعترفوا بالثغر المتفشيّة في مسار الحكاية. سيخرجون بتقرير طبي يقول إن البذرة السيّئة، ليست في والد حضاري، يحب بيتهوفن والنساء الرشيقات القوام، بل في ابنته ليلى أثناء تكوينها في رحم أمّها، قبل أن يباشر الوالد تربيتها. فبالرغم من مهارة نيللي معتوق في أدائها مساوئ هذه الشخصيّة المريضة، والوقوف مدى ساعة على الخشبة، بأناقتها ورهافتها دونما تكلّف أو تصنّع، لتعيش بمكيال الثواني غرق ليلى في لجج مستنقعات الوجود، لم أشعر بعطف تجاهها، ولم أهرع بعناصر الأنثى الساكنة فيّ إلى مواساتها بالفكر والقلب.
"أنا متل شي شجرة مرميّة بهالدني". هذه مأساة المسكونة، لا مأساة فرد منها. فحين تسأل ليلى حالها "أنا مين؟"، تكون في تلك اللحظة تقاسي شعوراً بالذنب لا يدوم، كأنها كما أراد جلاّدها، كاتب قصّتها، يعيدها إلى جوهر كيانها، جسدها، الذي أراده الكاتب مختبرها، تمتحنه لترى إلى أين سيصل بها. تحشوه بالطعام، تمارس عليه العادة السرّية، وحين أصبحت في عمر الشرود صارت تقدّمه لكل عابر سبيل، خادمة شهواته وذكوريته، من دون أن تتساوى به لتنال منه حصّتها في المتعة. صارت تنزلق في العدم. المخدّرات خدرها، ونسيان إسمها وغربتها عن الحب والحنان. عازفة موزار والنشوة النابعة منه، نقلتها إلى البقاع تستمد من أبو قاسم نشوة للسكينة.
ألم يبالغ ميشال جبر في تصوير الطغيان الذكوري في رسالة بيتهوفن إلى حبيبته إليز؟ لقد فاز في تصوير الطغيان الذي مارسته ليلى على حالها في ارتمائها بين اشداق الوحوش. محاطة بالظلال تقول: "لن يتغيّر شيء".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم