الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

من أجل تفسير الميثاق تفسيراً دستوريًّا

الأب صلاح أبوجوده اليسوعي
من أجل تفسير الميثاق تفسيراً دستوريًّا
من أجل تفسير الميثاق تفسيراً دستوريًّا
A+ A-

اكتسب الميثاق الوطنيّ أهميّة فاقت بأضعاف أهميّة الدستور، في سياق البحث عن حلول للأزمات الوطنيّة التي عرفها لبنان منذ الاستقلال إلى اليوم. بل إنّ نظرة موضوعيّة إلى مسار تلك الحلول، تبيّن أنّ تفسيرات الميثاق قد اتّخذت مسارًا تقهقريًّا بقدر ما همّشت الدستور وناقضته تناقضًا شديدًا، وبوجه خاصّ، في وظيفتَيه الأساسيَّتين: أوّلاً، بصفته المصدر القانونيّ الأساسيّ التي يستند إليها عمل النظام السياسيّ؛ وثانيًا، تضمّنه الطرق الآيلة إلى تجاوز الطائفيّة، ليس الطائفيّة السياسيّة وحدها التي تثير التباسًا ومخاوف شتّى، بل الحالة الطائفيّة كلّها كما ورد بوضوح في المادّة 95: "على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيّين اتّخاذ الاجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفيّة السياسيّة وفق خطّة مرحليّة، وتشكيل هيئة وطنيّة برئاسة رئيس الجمهوريّة، تضمّ بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيّات سياسيّة وفكريّة واجتماعيّة. مهمّة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفيّة وتقديمها الى مجلسَي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحليّة". فإلغاء الطائفيّة السياسيّة إذًا يُتبَع بإلغاء الطائفيّة كلّها.


وفي الواقع، في حين أنّ الدستور يشدّد على طابع الطائفيّة "الوقتيّ"، فقد حوّلت تفسيرات الميثاق المتعدّدة ذلك الطابع إلى ثابتة لا تمسّ، وأتت ميثاقيّة مقدّمة دستور الطائف لتزيد تلك الثابتة قدسيّة: "لا شرعيّة لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك". وفي حقيقة الأمر، شغل هذا الميثاق منزلة "الحدث المؤسّس" للدولة اللبنانيّة، ولكنّه لم يكوّن ذاكرة وطنيّة واضحة المعالم تؤدّي إلى خلق قيم وطنيّة مشتركة بين جميع اللبنانيّين، وتعزّز فيهم روح انتماء وطنيّ واحد وحسّ بالخير العامّ. وفي هذا الإطار، يقول النائب الدكتور فريد الخازن إنّ الميثاق الوطنيّ غير المدوّن جاء "متلازمًا مع استقلال لبنان في 1943. فلولا الميثاق لما كان الاستقلال ممكنًا في تلك المرحلة، والعكس صحيح. هذا الترابط العضويّ كان جسر العبور من الانتداب إلى الاستقلال. ارتبط الميثاق بلاءَين شهيرَتين، لا للشرق ولا للغرب. المقصود بالغرب الانتداب الفرنسيّ وبالشرق مشاريع الاندماج في كيانات أوسع، سوريا تحديدًا" (مقالته في جريدة "السفير" بتاريخ 29/10/2016). ولكن إذا كان الميثاق حلاًّ براغماتيًّا بغية تحقيق الاستقلال، وأصبح بالفعل نفسه جزءًا لا يتجزّأ من الحياة السياسيّة، فقد بقي غامضًا من حيث مضمونه، وفي كلّ حال غير انصهاريّ.
يرى البروفسّور حسان تابت رفعت والبروفسور أنطوان مسرّة (مقالتهما في "النهار" بتاريخ 11/10/2016)، أنّه من غير الجائز القول إنّ ميثاق 1943 "غير مكتوب"، أي مجهول المضمون. ويستند الكاتبان إلى وثائق تاريخيّة ليحدِّدا ثلاثة مبادئ ميثاقيّة متكاملة: أوّلاً، لبنان وطن مشترك إسلاميّ مسيحيّ يناقض كلّ طرح فدراليّ أو تقسيميّ أو فرزيّ على أساس سكّانيّ أو مناطقيّ؛ وثانيًا، ضمانات حقوقيّة للطوائف كافّة، تشمل الحريّات الدينيّة والثقافيّة والمشاركة؛ وثالثًا، عروبة لبنان التي تأتي دائمًا "ملتصقة ومُشترطة باستقلال لبنان وسيادته"، وتطبيقها يعني تحييد لبنان عن الصراعات الإقليميّة باستثناء الصراع العربيّ - الإسرائيليّ. ويرى الكاتبان أنّ ثمّة ثقافة ميثاقيّة لبنانيّة اجتازت مرحلتَين، مرحلة الطفولة (1920-1943)، ومرحلة المراهقة (1943-1990)، أمّا المرحلة الثالثة فهي سنّ الرشد الميثاقيّ. وبشأنها يسأل الكاتبان: "هل بلغ اللبنانيون اليوم نتيجة المعاناة والاختبار سنّ الرشد الميثاقيّ؟ هل تكون بالتالي وثيقة الطائف ميثاقنا الأخير؟".
بالرغم من عدم ذكر المقاييس التي على أساسها تمّ الكلام على المراحل المذكورة، فإنّ السؤال المتّصل بالمرحلة الثالثة يبقى مشروعًا. غير أنّ الجواب الوافي في رأينا لا يتوقّف على احترام التعدديّة اللبنانيّة المتداخلة التي تنفي التقوقع الطائفيّ والمذهبيّ، ولا على التقيّد بأصول عمل المؤسّسات الدستوريّة، ولا على حياد لبنان الإيجابيّ خارجيًّا فحسب، بل، قبل كلّ شيء، على القناعة بأنّ سنّ الرشد يعني الرغبة في تجاوز الحالة الطائفيّة، وبالتالي فهم الميثاق في ضوء الدستور وبوجه خاصّ بناءً على ما تنصّ عليه المادّة 95. وهذا يفترض خطوة تعاكس مسار تفسيرات الميثاق التقهقريّ.
لقد ركّزت تفسيرات الميثاق على مسألة الشراكة بين الطوائف، وأهملت النقاط الميثاقيّة التي تلتقي ووقتيّة الطائفيّة دستوريًّا. فقد ورد في بيان الرئيس رياض الصلح الوزاري الذي يُعدّ أحد أهمّ مراجع الميثاق الأساسيّة: "إنّ الساعة التي يمكن فيها إلغاء الطائفيّة هي ساعة يقظة وطنيّة شاملة مباركة في تاريخ لبنان. وسنسعى لكي تكون هذه الساعة قريبة بإذن الله. ومن الطبيعيّ أن تحقيق ذلك يحتاج إلى تمهيد وإعداد في مختلف النواحي، وسنعمل جميعًا بالتعاون تمهيدًا وإعدادًا حتّى لا تبقى نفس إلاّ تطمئن كلّ الاطمئنان إلى تحقيق هذا الإصلاح القوميّ الخطير". ويقول الرئيس بشارة الخوري مَن تؤلِّف مجموعة خطبه المرجع الأساسيّ المكمّل لمضمون الميثاق: "لقد أعلنتُ أنّ الميثاق الوطنيّ لم يكن مجرّد تسوية بين طائفتين، بل صهر عقيدتين، واحدة كانت تدعو إلى إذابة لبنان في دولة أخرى، وأخرى كانت تدعو إلى إبقائه تحت حماية أجنبيّة. جاء الميثاق الوطنيّ ليزيل، بالتفاهم والوئام، هاتين الحركتين المتضاربتين، وليحلّ محلّهما إيمانًا وطنيًّا لبنانيًّا واحدًا. وقد تجلّى هذا الإيمان في التعايش السلميّ لكلّ الطوائف التي يضمّها لبنان، وكان منطلقًا لبناء الدولة ولتكوين الميثاق" (باسم الجسر، ميثاق 1943).
لم تسلك رغبات بطلَي الاستقلال طريق التنفيذ، بل اتّجهت البلاد نحو صراع طائفيّ تصاعديّ مرير على الامتيازات والحقوق والوظائف، وازداد العمل الاجتماعيّ السياسيّ على الأساس الطائفيّ، وحُصر مضمون الميثاق بالشراكة المسيحيّة الإسلاميّة التي تتأثّر سلبًا أو إيجابًا بالتغييرات المختلفة داخل كلّ طائفة، وبامتداد الطوائف الخارجيّ سياسيًّا وثقافيًّا ودينيًّا. لقد أصبح النظام، بفعل تفاقم الطائفيّة، يعيش في حالة قصور دستوريّ دائم، ويعكس توازنًا دقيقًا بين المذاهب والطوائف، ومجرّد مرجعيّة تدير المسائل الخلافيّة من دون سعي لحلّها.
في فترة ما بعد الاستقلال، عرف المشهد السياسيّ تحالفات تجاوزت في الغالب التكتّلات الطائفيّة ذات اللون الواحد، مثل الجبهة الاشتراكيّة الوطنيّة والجبهة الشعبيّة. وساهم في تعزيز هذا التوجّه النظام الانتخابيّ الذي خلق حالة تشابك بين الطوائف، إذ بات النائب من طائفة معيّنة يحتاج إلى أصوات ناخبين من طوائف أخرى. ولكن كلّ ذلك لم يرسِ أسس ثقافة وطنيّة جامعة، ولم يقضِ على العصبيّة الطائفيّة لصالح انتماء وطنيّ. وكان يكفي أن يحصل أيّ تبدّل في المشهد الإقليميّ حتّى يشتدّ التموضع الطائفيّ، وتختلط السياسات الخارجيّة بالمطالب الداخليّة على أساس طائفيّ.
وفي الواقع، منذ اتّفاق الطائف إلى اليوم، تذهب البلاد في هذا الاتّجاه الطائفيّ الخطير المدعّم بتفسيرات وحلول ميثاقيّة مبتورة تشلّ عمل المؤسّسات الدستوريّة، منها الترويكا والثلث الضامن والشراكة الوازنة القائمة على حكم الأقوياء طائفيًّا. لا بديل عن تفسير الميثاق في ضوء الدستور فقط، وتحديدًا ما ينصّ الدستور عليه بشأن إلغاء الطائفيّة.


(أستاذ في جامعة القديس يوسف)

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم