الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

بالغناء والموسيقى صار بيت لوسيان جورج غابة حميمة للطيور الغرّيدة

مي منسى
بالغناء والموسيقى صار بيت لوسيان جورج غابة حميمة للطيور الغرّيدة
بالغناء والموسيقى صار بيت لوسيان جورج غابة حميمة للطيور الغرّيدة
A+ A-

في تلك المسارّة الأثيريّة بين نادين نصّار السوبرانو وجادفيغا كوتنوفسكا على الفلوت، في بيت لوسيان جورج، سمعنا الصوت يتعرّى من قشرته البشريّة، ويتعالى في رحاب الكون، حرّاً، طليقاً، باحثاً في "كانتيلينا" لفيللا لوبوس، عن الهواء المرتعش من أنفاس المزمار ليتوحّد به.


لحظات نادرة، عشناها، مسكوبة في حنجرة نادين نصّار الرقراقة كمياه الينابيع الصافية، كما تلك المولودة من أنفاس مزمار جادفيغا. ثنائي عجيب بمهاراته وأحاسيسه المقشعرّة، المسنونة على حد خيط نوراني، استباح أصوات الغابات وتغاريد طيورها، فيما ملامس هانّا الساهرة على نقطة الارتكاز، تعيد العصفورين من تيههما حيث للصمت ما يقوله، لمن يحسن الإصغاء إليه.
هذا الثالوث الذي أعطى مساء الخميس من وحي الميلاد، أجمل المختارات، في كاتدرائية سان جان مارك في بيبلوس، كان له في بيت لوسيان جورج المناخ الحميم، الذي يرفع عن النفس ثقل الوجود. هنا كانت البداية للفلوت والبيانو في مقتطف راقص من أوبرا بولونية للودومير روجيتسكي. في تراقص الإيقاع المحموم، كانت حكاية عشق ولوعة بين الفلوت وأنفاس جادفيكا، تقلّب صفحاتها المثيرة هانّا هوليسكا التي كانت تتنقّل بين مقطوعة وأخرى من بيانو يلائم أنفاس الفلوت إلى آخر من زمن شوبان وشومان، يحاكي رخامة صوت السوبرانو.
من هذه التحفة التغريدية كانت البداية مع ساحرة تغدق شغفها على الآلة لتجعل منها أصوتاً لجوقة من الطيور، ألم تأسرنا بمهاراتها التقنية وهي تعيد "أوبرا كارمن" كاملة بنفحات جنيّة بيزية وتحديات دون جوزيه لها. هذا الاقتباس العجيب من عاشق فلوت إسمه بورن، أدخل جنيّة أخرى إسمها جادفيغا لتعيد بصوت مزمارها الميزو- سوبرانو إلى اذهاننا صوت كارمن.
في القائمة، مقطوعتان من لب الرومنطيقية، لرخمانينوف وسان سانس، لبيانو وفلوت، هذه الآلة التي تغدو جارحة، ثائرة، عاشقة في فم نافختها. إلى دخول السوبرانو، هذا الصوت الذي يحيي قلب الإنسان. نادين نصّار تحمل تكاوين صوتها، بهذا الصفاء الذي يتخلى عن رهجة الديفا وهالة المظهر، ليغدو الأداء رسالة مقدّسة، نجرع منها، حين يعلو الصوت مصبّحاً شوبان، فنرتوي. ولم نبق على عطشنا، فنادين نصار تغني لشفاء النفوس حيث الطرب يغدو معمودية في هذا النهر الدافق من الرومنطيقية. وعاد شوبان يدغدغ حنجرتها والبيانو رفيقها في مازوركا يقال إن النوطة الأخيرة كتبها وهو على رمقه الأخير. لقد استهلّت قائمتها بقصيدة ليريكية لفوري "ورود إصفاهان"، ثم ثانية للمؤلّف ذاته، "ضوء القمر". الغناء كان يعلو من نسيج واحد مع ملامس هنّا هوليسكا، هذه الوحدة العجيبة تصاعدت في مكيال المشاعر حين اجتمع الثلاثة في "كانتيلينا" الفقرة الخامسة من "بكانيا برازيلليراس" لفيلاّ لوبوس. في هذا اللقاء، والحوار بين نادين وجاديفغا يحلّق فوق أرض البيانو، كان لا بد أن نكتشف التقارب المذهل بين صوت الفلوت والصوت البشري. كانت فلوت جاديفغا تغني، فيما صوت نادين يخترق نسيج الناي، ويغدو هو، جارحاً، رقراقاً، تراجيدياً.
بيت لوسيان جورج تعرّى في هذه الليلة من جدرانه. فمع هذا الثالوث انتقلنا إلى معنى حقيقي للوجود. المشهد كان مرتسماً في السمع، كلّما أعطت صاحبة المزمار آلتها أن تتكلّم بلغة العشاّق وكلما ارتقى الصوت البشري، صوت نادين يزفّ لنا الرجاء من حنجرة مرهونة للفرح.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم