الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

بضائع لم تألفها العيون في سوق مختلف يغزو مدن لبنان

المصدر: "النهار"
بضائع لم تألفها العيون في سوق مختلف يغزو مدن لبنان
بضائع لم تألفها العيون في سوق مختلف يغزو مدن لبنان
A+ A-

لم يبقَ في جيوبهم ما يكفي لشراء سكاكر، يزيّنون بها لمعة عيون أولادهم في كلّ مساء. بالغ كتاب الاجتماع الدراسي اللبناني في نعتهم بالطبقة الوسطى، وموقعهم بالكاد يتطرّف انحداراً ليطئ خطّ منزلة الفقر. وما عاد الاعتماد على أي أحدٍ، سبيلٌ إنقاذي. لا الدولة القابعة في الكوما، ولا مبدأ الوساطة الذي أثقل بكمّ معتنقيه كاهل المؤسسات وآذان المصغين من أصحاب الفضل. ولا حتى طفرة الشهادات الجامعية وعروض دكاكين التحصيل العلمي التي أفرغت رصيد ما تبقى من حسابات أبناء الطبقة الوسطى المصرفية. كلّ ذلك على أمل نيل شهادةٍ مهداةٍ الى البطالة. بعيداً من السائد، بات الاعتماد اليوم على أبسط أشكال مصادر العيش وأفكارها لكسب النقود وانتشال الأوادم من الغرق التدريجي في رمال النفقات المتحركة. إن أحدث المساعي في هذا الإطار، تجسّدت في سوقٍ جديد أضيف الى زحمة الأسواق الشعبية، أطلق عليه منظّموه اسم "سوق السبت".


الفكرة انطلقت من أنطلياس المدينة المتنية التي بات صناعيّوها وحرفيوها وفنانوها ومزارعوها، كلّهم يحتاجون الى صعقةٍ إيجابية تقرص رزحهم وتعيد لأياديهم حماسة الانتاجية. في قالبٍ شبيهٍ بالأسواق الشعبية الأوروبية free markets ، أطلقت مجموعة من شباب المتن المنتمين الى منظمات المجتمع المدني، فكرة "سوق السبت"، بدعمٍ من رئيسة اتحاد بلديات المتن السيدة ميرنا المرّ. يوفّر السوق مساحة تلاقٍ او يشكّل مجتمعاً صغيراً مخصصاً لكل الذين تفتقر امكاناتهم الى استئجار المخازن، يعرض فيها أبناء الطبقة الوسطى منتجاتهم وأغراضهم فيما توفّر لهم البلدية الكشك مجّاناً مقابل مبلغٍ ماليٍّ زهيد يعود ريعه لصالح استمرارية السوق. "الغاية من المشروع هو تعزيز الطبقة الوسطى وابراز مواهبها وتشجيع المبادرة الفردية. يتجمّع العارضون اسبوعياً في "سوق السبت"، مع اعطاء الافضلية لأصحاب الأفكار الفريدة والغريبة التي تجد سوقاّ للتصريف، كمنتجات المونة اللبنانية والملابس الصوفية المحاكة يدوياً وأغراض الميلاد المصنوعة منزلياً والحليّ على اختلاف انواعها"، تقول رلى ابراهيم لـ"النهار"، احدى الناشطات في جمعية "ازاع" التي تبنّت فكرة "سوق السبت". افتتح السوق للمرّة الأولى يوم السبت 5 تشرين الثاني 2016، ولاقى استحساناً ملحوظاً من الزوار الذين بلغ عددهم حتّى اليوم 2000 زائر. وتكمن الخطوة المرتقبة في تنظيم "سوق السبت" بعنوان Santa town لمدة 3 أيام متتالية لمناسبة موسم الأعياد المجيدة في تاريخ 9 و10 و11 كانون الأول الجاري في منطقة الجديدة، بهدف مساعدة المستهلكين على ابتياع حاجيّات العيد بتكلفة أقل.


فضلاً عن البضائع المعروفة، يتفرّد سوق السبت في عرض منتجات فريدة كمنتج الـhot wine او النبيذ الخاص الذي يصنع منزلياً وأقمشة الكروشي الخاصة بتزيين المقتنيات المنزلية، فيما الغرض من ذلك ضمان استمرارية قويّة للسوق مستقبلاً. أما الفكرة الأبرز، فتتمثّل في كشك يدعى "الدكانة اللبنانية"، الذي استُحدث خصيصاً لدعم البضائع اللبنانية التي يتراجع سوقها تدريجياً لصالح البضاعة الأجنبية. وتبيع الدكانة الشوكولاتة المصنوعة في لبنان و"الحراتيق" المنزلية كقجّة جمع المال القديمة. كل ّهذه الأفكار تؤمن استمرارية من شأنها أن توسّع نطاق انتشار السوق مستقبلاً، فيما الأنظار تتجه اليوم نحو جونية وجزين وجبيل، المحطات الثلاث التي ستشهد ولادة مرتقبة للسوق الشعبي عينه. في هذ الاطار، تشير ابراهيم الى ان "ضمان استمرارية السوق مرهونة بمدى الاقبال وتفاعل المستهلكين وتجاوبهم. فيما كان الدعم المقدم من وزارتي الصحة والزراعة منشوداً، ما يؤمّن ثقة الناس بالمنتوجات المبيعة". وتدعو جميع الراغبين في عرض منتوجاتهم وبيعها في حال لم يتوافر لديهم مخزن للعرض، بحجز كشكٍ من خلال التواصل مع صفحة سوق السبت عبر موقع فايسبوك لمعرفة التفاصيل.


نسبة الطبقة الوسطى لا تتعدى 20%
ينضم سوق السبت الى مجموع الأسواق التي راج صيتها في السنوات الأخيرة دعماً للمواطن اللبناني الذي ضاقت به سبل الترفيه، ولم تعد تسعيرات واجهات المحال تشبه اندفاع جيبه. سوق أبو رخوصة، سوق الأكل، سوق الأحد، سوق الأربعاء نماذج مماثلة، وتكرّ السبحة. واقعٌ يضعه الخبير الاقتصادي الدكتور إيلي يشوعي في خانة توسّع مساحة الفقر في لبنان واندثار الطبقة الوسطى التي لا تعتبر بحاجةٍ الى هذا النوع من الاسواق. ويشير في حديث لـ"النهار" الى أن "السوق الشعبي هو وليد انخفاض مداخيل الأسر وفرص العمل والخدمات العامة وتراجع شروط العمل ومناخ الاستثمارات والبيئة التنظيمية للانسان التي هي من عمل الحكومات". ويعتبر أن "وجود هذه الأسواق غير مبرّر مع توافر نحو 155 مليار دولار مجمّدة في المصرف المركزي لصالح 4 ملايين لبناني. ما يعني ان الحكومات المتعاقبة هي من تتحمّل مسؤولية موضة الأبو رخوصة". وفي حديث الأرقام، يؤكّد أن نسبة الطبقة الوسطى في لبنان لا تتعدى الـ20% مع حلول عام 2017، مقابل 5% أثرياء و 75% فقراء بمستويات مختلفة. ويدعّم نظريته باعتبار أن 80% من المقترضين اللبنانيين لعام 2016 اقترضوا مبالغ مالية يتدنى سقفها عن الـ50 مليون ليرة لبنانية، وبالتالي لا يمكن اعتبار شخص مقترض لمبلغ 10 ملايين ليرة من المصرف منتمياً الى الطبقة الوسطى. ويحصر الطبقة الوسطى بالعائلات التي يراوح دخلها الأسري شهرياً بين 8 و 10 ملايين ليرة لبنانية مع عدد منتجين لا يقل عن شخصين.


يتحكّم مصدر البضائع المستوردة بتسعيراتها. فاذا كان المصدر باهظ الثمن، هذا ما يحتم رفع سعر المبيع في لبنان. ولعلّه السبب الرئيسي في عدم تناسبها والقدرة الشرائية لغالبية اللبنانيين ما يرجّح انعطافتهم لصالح الاسواق الشعبية. يقول يشوعي في هذا الإطار أن هناك بعض البضائع المبالغ في تحديد اسعارها في بعض المتاجر المصنفة درجة اولى. ويؤكّد أن حركة الطلب هي التي تتحكم بجميع مفاصل اقتصاد السوق، فيما يتمسك التاجر بالسعر الذي يريده حتى يصطدم بكساد بضاعته فيلجأ الى التنزيلات. وعن الحلول التي بامكانها اعادة ثقة المواطن بالمحال التجارية يلفت الى ضرورة الغاء حصرية التمثيل التجاري الداخلية التي منحت كامتيازٍ للتجار خلال فترة السبعينات من القرن الماضي. ويعقّب: "المنافسة ليست كافية مع وجود حصرية في التمثيل التجاري التي لا تخدم اعتدال الاسعار".


رغم تباشيرها باضمحلال الطبقة الوسطى، الا ان الجماهيرية التي نالتها الأسواق الشعبية في لبنان تعكس توق اللبنانيين نحو العيش مهما كان العبء المعيشيّ ثقيلاً. انها ارادة الاستمرارية. غياب الوجود الفعلي للدولة لا يمنعنا من أن نحمل بعضنا بعضاً ونسير قدماً. كأننا أولادٌ نشأنا دون سقف، وكابرنا حتى تنظّمنا دون حاجة أحد. لكن القرار الأصعب يبقى في رفض الواقع السائد. اقتلاعه، لا الصمود في وجهه.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم