الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

غازي عاد بكرسيّه المتحرك هزّ الضمائر.. واستسلم لغيبوبته

المصدر: "النهار"
مي عبود ابي عقل
غازي عاد بكرسيّه المتحرك هزّ الضمائر.. واستسلم لغيبوبته
غازي عاد بكرسيّه المتحرك هزّ الضمائر.. واستسلم لغيبوبته
A+ A-

منذ ايام يقبع رئيس لجنة المعتقلين والمخفيين قسراً (سوليد) غازي عاد في غيبوبة في مستشفى رزق، وقلوب الأمهات تصلي وتتضرع ليشفي الله غازي، ويعيده اليهن ليكملن معاً رحلة الأمل والعذاب على طريق البحث عن الأحباب الذين فقدوهم في غفلة من الزمن.


منذ العام 1995 ترافقنا معا في قضية انسانية كانت تعني له كل وجوده: هو في نضاله وصوته الصارخ في برية الظلم والظلام، وأنا بقلمي وحبر "النهار" نوصل الصوت الى من يجب ان يسمع، حين لم يجرؤ احد على مجرّد التحدث في الموضوع.
من على كرسيّه المتحرك حرّك غازي ملف المعتقلين في السجون السورية في عز الوصاية السورية في لبنان، وبفضله وصلت قضية المعتقلين والمخفيين قسراً الى المحافل الدولية في الولايات المتحدة واوروبا وإلى اعلى المستويات في الامم المتحدة في نيويورك وجنيف. بثبات وصبر وايمان، حمل غازي هذه القضية على مدى ربع قرن من دون تعب أو منّة أو مقابل. وقف الى جانب الاهالي يشد أزرهم ويشجعهم ويدعمهم، ومعاً هزّوا الضمائر النائمة، وهدفهم واحد: كشف مصير المخفيين قسراً والمعتقلين اعتباطاً.


التحوّل الكبير
ولد غازي عاد عام 1957 في ميناء الحصن - بيروت، وله شقيقان احدهما توفي خلال الحرب، والثاني جهاد متزوج وله ولدان ويعيشان معاً في البيت نفسه. حاز الثانوية العامة في الكويت حيث كان يعمل والده، ثم دخل الجامعة الاميركية في بيروت لدراسة الطب ونال اجازة في العلوم، سافر بعدها الى الولايات المتحدة للتخصص بالعلوم البحرية في جامعة "ويليام اند ماري" في فيرجينيا لأن الطب لم يستهوه.
عام 1983 حصل التحوّل الكبيرفي حياته: فاثناء تمضيته عطلة الصيف في لبنان تعرّض لحادث سير مروّع في بلدة فيطرون، سبب له كسراً في الفقرة الخامسة في الرقبة والعمود الفقري أدى الى شلل رباعي، وقلب مجرى حياته. نقل الى مستشفى الجامعة الاميركية في حال خطرة، وكان شبه ميت "يومها تغيّر كل شيء في حياتي. ولأني كنت تلميذاً في الطب أدركت وضعي فوراً إثر الحادث"، كما أخبرني ذات يوم في لقاء على المقاعد الخشبية في حديقة جبران خليل جبران قرب خيمة المعتقلين التي لم يفارقها يوماً.
ثلاثة اشهر في المستشفى، خرج بعدها الى مؤسسة قرطباوي في درعون - حريصا حيث بقي 20 يوماً "لكنني فضّلت العودة الى حياتي الطبيعية في البيت، وعملت على ذاتي، وأمضيت سنتين في اعادة تأهيل نفسي وتنمية قدراتي. بقيت فترة لا استطيع الجلوس على الكرسي، وكان احد الاصدقاء يجري لي جلسات علاج فيزيائي للمحافظة على العضلات ودينامية الجسم، لكنني كنت اعرف ان وضعي هذا نهائي. انهار بعض الاشخاص المقرّبين مني مثل الوالد والوالدة واصدقاء آخرين، واعتبروا انني انتهيت لأن وضعي الجسدي كان صعباً، لكنني عاهدت نفسي ألا انهار فأتعرض لأزمة نفسية. في المستشفى كنت اتابع الاخبار اليومية واقرأ الصحف والمجلات، وبقيت على اتصال مع جميع اصحابي، اناقشهم في مختلف مواضيع الساعة. لم اقبل مرة ان يعاملوني كمريض، بل اردت ان افهمهم انني لا أزال حياً وقادراً على التحدث والمناقشة". ومنذ ذلك الحين لم يتمكن من متابعة تعليمه.



 


بداية النضال
رغم الحرب واعمال العنف التي كانت تجتاح لبنان، وفي ظل وضع جسدي صعب، أراد غازي ان يرسم لنفسه هدفا يعيش لأجله ويحققه. يقول: "كنت امام خيارين: إما أن استسلم وأفقد الأمل وأصبح عبئاً على الآخرين، وهذا ما لا أرضاه، واما ان أكون ايجابياً وأقوم بشيء استطيع من خلاله ان أخدم غيري. وبما اننا كنا في فترة حرب، وكانت اعمال الاعتقال والخطف قائمة على أيدي القوات السورية، ولديّ اصدقاء تعرّضوا لهذه الممارسات منذ العام 1976، ومنهم من افرج عنه ومنهم من اصبح ضحية اخفاء قسري، قررت انا وصديقي فاضل الطيار، الذي كان اخوه ايضاً ضحية هذه الممارسات إذ خطف عام 1978 من مستديرة الصياد على يد القوات الخاصة السورية، أن نقوم بحملة لمعرفة عدد المخطوفين". ومن هنا كانت بداية المشوار والنضال.
"في 29 كانون الاول 1989 أطلقنا الحملة عبر وسائل الاعلام بناء على تقرير خاص عن التعذيب في السجون السورية على يد القوات الأمنية السورية، أصدرته منظمة العفو الدولية في تشرين الثاني 1987، وذكر فيه اعتقال لبنانيين ونقلهم الى السجون السورية. وطلبنا الى الذين لهم معتقلون في سوريا ان يبعثوا الينا برسائل تتضمّن المعلومات اللازمة وتحمل توقيعين من العائلة لتكون موثقة وأصلية. خلال شهرين تقريبا، اي منذ اول السنة وحتى شباط 1990، وصلتنا 200 رسالة من مختلف المناطق اللبنانية وخصوصا من طرابلس. مررنا بفترة صعبة بين اعوام 1990 - 1995. فبعد حصول اشتباكات بين الجيش و"القوات اللبنانية"، ودخول الجيش السوري المنطقة الشرقية، خاف الاهالي وامتنعوا عن التصريح عن مفقوديهم والادلاء بأي معلومات، وانقطع الاتصال مع كثيرين منهم. لكننا واصلنا متابعة الملف مع منظمات حقوق الانسان المحلية والدولية، وركزنا عملنا على معالجة ملف المعتقلين في السجون السورية، وأطلقنا "لجنة المعتقلين اعتباطاً في السجون السورية "(سوليد) عام 1993 وبدأنا تبادل المعلومات مع منظمة العفو الدولية".





منذ العام 1996 تعرض غازي عاد مرات عدة للتهديد، خصوصا في فترة الوصاية السورية، من احد اجهزة المخابرات اللبنانية الذين لم يتورّعوا عن المجيء اليه في المنزل طالبين منه التوقف عن متابعة هذا الملف لأنه "مسيّس ومبالغ فيه" على حد قولهم. لكنه كان يشرح لهم القضية، ويعلن تمسّكه بموقفه "اياً كانت الاخطار ما دمت مقتنعاً بالحق، وليس عندي شيء أخاف منه".
كان غازي متفائلاً دائماً، والبسمة لا تفارقه، ويعتبر أن "قضيتنا حق، وحقها ساطع كالشمس لا جدال فيه، ومن حق الأهل ان يعرفوا مصير ابنائهم. الامر يتطلب متابعة ومطالبة، وطالب الحق سيصل اليه. اعتقد ان يد الله كانت معنا منذ بداية المسيرة وتفتح لنا السبل والطرق للتقدم. مثلاً بعد ثماني سنوات من العمل الشاق والتظاهرات والمؤتمرات الصحافية تطلّب الامر مني 15 دقيقة فقط لاقناع النائب البريطاني جيمس مورهاوس لاصدار قانون في البرلمان الاوروبي في 12 آذار 1998 يطالب سوريا بالافراج عن المعتقلين اللبنانيين في سجونها".
بعد كل هذه السنوات من المثابرة والنضال علمته هذه التجربة "امراً اساسياً هو الصبر والثبات على الموقف والحق، وأعطتني خبرة في العلاقة مع مؤسسات حقوق الانسان العالمية والمنظمات الدولية وكيفية التعاطي معها، كما درّبتني على ايجابية اخرى هي العناد والمثابرة على المطالبة والتحرك وأخذ المبادرة. كنا دائماً فعلاً، ولم نكن مرة ردّة فعل".
الى جانب غازي وقفت "لجنة اهالي المعتقلين" التي تشكلت في 9 تشرين الأول 1997 يوم اطلقت "منظمة العفو الدولية" تقريرها عن المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، من الامهات اللواتي خضن معه معترك النضال والتظاهرات والاعتصامات محلياً وعالمياً لكشف حقيقة مصير ابنائهن وازواجهن، ومعه سافرن الى اوروبا واميركا لطرح القضية امام المحافل الدولية.
لم يركن غازي الى خدعة اللجان القضائية - الأمنية اللبنانية - السورية للبحث في قضية المفقودين والمخفيين، وطالب بانشاء "الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرا" و"بنك المعلومات للحمض النووي" لأهالي المفقودين مما يمكِن لاحقاً من التعرف الى المفقودين والتأكد منهم، خصوصاً ان معظم الاهالي باتوا اليوم في سن متقدمة ومعظمهم في حال صحية غير مستقرة، اضافة الى التصديق على المعاهدة الدولية لحماية جميع الاشخاص من الاخفاء القسري.
وفي 11 نيسان 2005 نصب خيمة الاعتصام امام مقر "الاسكوا" للفت نظر المجتمع الدولي "الى قضية المعتقلين، وإلى ان انسحاب الجيش السوري من لبنان وفقا للقرار 1559 يعتبر غير كامل من دون حل قضية اللبنانييين الذين اعتقلتهم القوات السورية في لبنان ونقلتهم الى السجون السورية"، وليسمع العالم آهات الأمهات والزوجات والأخوة والأبناء المجتمعين فيها، وزنرها بصور المفقودين والمخفيين، علّ الضمائر تهتز. لكن بعد 11 عاماً تعبت الأمهات، ومات البعض، ولم يتحرك ضمير، فأغلقها مكرهاَ، ليبحث عن طريقة أخرى في النضال. لكن المرض أنهكه، فاستسلم لغيبوبة نصلي كلنا لكي ينتصر عليها.. ولا نفقده.


[email protected] 
twitter: @mayabiakl


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم