الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

في سابقة من نوعها سجينات طرابلس تحوّلن إلى قضاة داخل السجن... والقضاة يصفّقون

المصدر: "النهار"
مجد بو مجاهد
مجد بو مجاهد
في سابقة من نوعها سجينات طرابلس تحوّلن إلى قضاة داخل السجن... والقضاة يصفّقون
في سابقة من نوعها سجينات طرابلس تحوّلن إلى قضاة داخل السجن... والقضاة يصفّقون
A+ A-

هي المرّة الأولى التي تنقلب فيها الأدوار. فتلعب فيها السجينة دور سيّد القاعة. تلبس ثوبه وتمتلك مطرقته. تصدر الحكم على نفسها بنفسها، أمام الجميع. كلّ ذلك حصل بعدما حوّلت ماضيها الى قصيدة. القاضي والمحامي وآمر السجن ووجيه المنطقة، كلّهم تحوّلوا من آمرين الى مصفّقين. صاروا زوّاراً أتوا الى مرتعها، ليس ليحكموا عليها، بل ليستمعوا الى ما تريد أن تقوله، كبعثرةٍ من فمها تحاكي فيه ما يختلجها. لأول مرّةٍ في الشرق الأوسط، شهد سجنٌ على محكمةٍ كهذه. حصل ذلك يوم الخامس من شهر تشرين الأول في سجن طرابلس للنساء في أمسيةٍ شعرية غير مسبوقة تحت عنوان "أمل خلف القضبان"، تحوّلت فيها السجينات المئة والعشرة، الى نجماتٍ على شاكلة طائرٍ مذبوح يرقص. يغرّد ليعبّر عن معاناة.


قضاةٌ ومحامون وأصحاب رأي وشخصيات من وجهاء المجتمع وفنانون، احتشدوا جميعاً في مكان، كان قبل أن يطؤوه زاويةً للمَنْسِيّين. "وقطفت الحلم حريي، وعا مخدتي وعّيت الزهر، ودموعي بهالليل مضويي، كسرت قضبان مبللة بالقهر، بكمشة حزن وهموم بإيديي، زرعت الأمل بغصة العمر، وعا حيطان السجن غفيت الخبريي، محفورة بشوية صور، وبكرا الشمس المستحيي، رح ترقص على نسمة الفجر". بهذه الكلمات افتتحت الشاعرة هنادي حجازي الأمسية التي نظّمتها بنفسها بالتعاون والتنسيق مع الجمعية اللبنانية الخيرية للإصلاح والتأهيل. وهي تروي في حديثٍ لـ"النهار" تجربتها الاولى من نوعها معتبرةً أن الهدف الأول من الأمسية هو تكريس مساحة خاصة للناس المحجوبين عن الثقافة كالسجناء والأيتام وتوعيتهم للمطالبة بحقوقهم الثقافية والفنية وتسهيل اعادة اندماجهم في المجتمع بعد خروجهم من السجن من خلال اكتسابهم حصانة فكريّة، فضلاً عن استعادة توازنهم النفسي.


"طلبت من السجينات التعبير عمّا يختلجهن من مشاعر بالطريقة التي يرغبون بها، وباللغة المحكيّة، خصوصاً أن بعضهن لا يتقنَّ الكتابة الصحيحة ويتحدرنَ من ثقافات وجنسيات متعدّدة. ما لفتني أنهنّ ذعرنَ بدايةً من فكرة التعبير الجريء امام الحضور، فانحصرت المنافسة في النهاية بين 5 نساء فاجئنني بامتلاكهنّ موهبة فنية حقيقية وقدرتهنّ المميزة على التعبير وتفاعلهن مع تناقضات الليل والنهار رغم تواجدهنّ داخل السجن. وكان هنالك لجنة حكم مؤلّفة من ضيوف من عالم الحقوق والاجتماع، قرّرت فوز النساء الخمسة بالاجماع بجوائز مادية توضع في صندوق كلّ فتاة وتحصلها عند انتهاء فترة المحكومية"، تقول حجازي. برأيها أن فكرة احياء امسية شعرية في سجن، تبقى مبادرة جريئة تتوقف عند تقبّل المجتمع لها واستشعار ردات الفعل ومدى التجاوب مع الحدث من خلال الوجوه النسائية المشاركة. في حين أن الشعر يبقى الطريقة المثلى للبوح وهو الباب الأمثل ليعبّر اي انسان عن نفسه كما لو أنه يكتب مذكّراته. فيما كانت النتيجة في غاية الايجابية بعد تفاعل السجينات الحاضرات وتشجعهن للتعبير عمّا يختلجهنّ بعدما وجدنَ زميلاتهن يعتلين المنبر، رغم تحفظهن وخوفهن في بداية الأمسية.


تحويل مفهوم السجن الى مؤسسة تربويّة
تبقى الأمسية الشعرية التي شهدها سجن النساء في طرابلس مجرّد خطوة أولى في اطار تعريف السجينات على حقوقهن الثقافية قبل الانتقال الى النشاطات الاخرى التي تحمل بعداً ثقافياً اسمى. المسيرة ستستكملها الجمعية اللبنانية الخيرية للاصلاح والتأهيل في سجونٍ أخرى بالتعاون مع الشاعرة هنادي حجازي، فيما يبقى الهدف الأساسي الحث على التواصل الثقافي بين السجناء والعالم الخارجي. إن هذه البرامج الثقافية من شأنها في وتيرتها المستمرّة أن تحسّن ظروف إقامة نزيلات السجون ومراكز الإصلاح، وهي الضمانة للحقوق الثقافية لكل سجين او سجينة حتى اكتساب حصانة فكرية تؤهله أو تؤهلها للاندماج مع المجتمع بعد قضاء فترة السجن أي العقوبة واستعادة التوازن النفسي للانخراط مجددا في المجتمع إنسانا نافعا لنفسه وأسرته ومجتمعه.


في هذا الإطار أعرب المقدّم بهاء الصمد الذي مثّل مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء ابراهيم بصبوص أن النظرة الحديثة إلى العقوبة المانعة من الحرية وإلى السجن قد تطورت بشكل جذري إذ لم تعد الغاية من العقوبة تقتصر على مجرد الاقتصاص من المجرم، بقدر ما أصبحت ترمي إلى إصلاحه ومعالجة انحرافه وتأهيله لعودته عضوا سليما في مجتمعه، وبذلك تحول مفهوم السجن إلى مؤسسة تربوية فصار اشبه بمدرسة اجتماعية فاعلة يخرج بعدها السجين إنسانا سويا وعنصرا صالحا في مجتمعه، فالإصلاح والتأهيل هما أكثر ما يحتاج إليه السجين من خلال مدة وجوده في السجن لتحقيق معافاته. وعن رمزيّة اللقاء في سجن طرابلس أكّد أن "لقاءنا اليوم برمزيته أكبر من مناسبة فنية شعرية وأسمى من محطة شعرية، فلنجعل منه مناسبة نرسم من خلالها أبعادا جميلة تتخطى جدران هذا السجن". بدورها اعتبرت المحامي العام الاستئنافي القاضي اماني حمدان في كلمةٍ وجهتها الى السجينات أنه لا بد ان نراجع انفسنا لنتأكد من أهمية الحرية في الخارج، وان نعود صالحات في مجتمعنا وألا نعاود ارتكاب الأفعال التي سبق ان ارتكبنا مثيلا لها وأدخلتنا إلى السجن، من هنا اهمية هذا الشعور الذي عبّرتنّ من خلاله عما يجول في أفكاركنّ.


من سجن الزنزانة الى سجن الحياة الكبير، ستخرج السجينات يوماً وكأن لا شيء يلوح في أفق الغد سوى الفراغ. انه مشروعٌ حلم، أن يتحوّل السجن في لبنان الى مدرسة. وألا يكون عبارة عن قسوة. لم تكن سجينات طرابلس ترغبن في ان تنتهي تلك الأمسية الشاعرية. كن يردنَ أن يطول وقتها، وكأنها عيدٌ لا يأتي سوى مرّة. بين جدران القفص الأربعة، لا بدّ من وجود كتابٍ أو رواية أو قصّة أو دفتر تلوين وقلم رصاص، يجعل كلًّا منهن تعبّر عن نفسها. ولو أنها اختارت أن تتفرّج على الصور وحسب، لتخال نفسها مجّسدةً فيها، وتكتب قصّتها في عيونها... وتخيطها بين الرسومات.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم