الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

ملامح الكابوس المخيف الذي شهده لبنان في العام المنصرم تعود لتظهر في بلدات النبطية

المصدر: "النهار"
مجد بو مجاهد
مجد بو مجاهد
ملامح الكابوس المخيف الذي شهده لبنان في العام المنصرم تعود لتظهر في بلدات النبطية
ملامح الكابوس المخيف الذي شهده لبنان في العام المنصرم تعود لتظهر في بلدات النبطية
A+ A-

انها معامل فرز النفايات العاملة على الأراضي اللبنانية تعلن حالة الطوارئ. تكاد تحصي اعدادها اصابع اليد. واليوم باتت مهدّدة بالانقراض، في حال اقفلت. هذا ما لم يكن ينقص سجلّ ازمة النفايات "الغينيسيّة" في لبنان. او انه اتى كخرطوشة اخيرة تنذر باعلان عودة الكابوس. او كمحوٍ لآخر عبارةٍ جميلة مكتوبة في مطوّلة دراميّة. السبب جليّ: "غياب دعم الدولة لأسعار بيع الكرتون والبلاستيك والزجاج المعاد فرزه". حين تصل الشاحنة من النبطية الى ضواحي بيروت لتبيع حمولتها لأحد المصانع، ليس مستغرباً ان تنفق ثمن ما تقبضه على شراء الوقود، لتضمن عودتها الى مسقط الرأس. ناهيك عن مزاجيّة الشاري الذي قد يفترض وجود شوائب في البضاعة، في اللون والشكل والمضمون، فتعود الشاحنة ادراجها خائبة، سوى في حال "حرقت" السعر واستسلمت للضغط المعنوي.


بلدة عربصاليم في محافظة النبطية، التي كانت تتغنى بقدرتها على فرز نفاياتها منذ أكثر من 20 سنة، تواجه اليوم خطر اقفال المصنع، في ظلّ غياب الحماسة التي تتطلبها الاستمرارية كعنصرٍ اوليّ للعمل. بدوره معمل جباع اقفل بعد عدم توخّيه الشروط المهنية والصحية المطلوبة. معمل الكفور لم يستقبل نفايات بلدات اقليم التفاح حتى اليوم، فيما تعجّ غالبية قراه بالنفايات المرمية عشوائيّاً في مكبّاتٍ لا تعلم متى تنفجر بأطنانها. والروائح الكريهة تستعيد مشهديّة كابوس الصيف المنصرم. امكانية استحداث المطامر الصحيّة مستبعدة. أي قريةٍ تتقبل استقبال مطمر يأوي نفايات جوارها في احضانها؟ ولا واحدة. قصّة ابريق الزيت نفسها. اما امكانية اقامة معامل فرز جديدة، فهي مستبعدة في ظلّ عدم قدرة البلديات على تحمّل كلفة إنشائها. يكفيها ان تقرأ واقع معامل الفرز الحالية، الذابلة في نفاياتها حتى حين مؤجّل. ينادون بالفرز من المصدر، ومعامل الفرز تصفّر. وصافرة الانذار تستعيدها حسابات مواقع التواصل الاجتماعي: "احذروا. ازمة النفايات عائدة". فهل، في ذلك التهويل، من مبالغة؟


بين استحالة بناء معامل الفرز واستحداث المطامر
"النفايات تتكدّس في غالبية بلدات وقرى اقليم التفاح"، بهذه العبارة يختصر رئيس بلدية حونين الفوقا الأستاذ فادي نعمة في حديثٍ لـ"النهار"، واقع جزء كبير من بلدات النبطية. برأيه أن العوامل الكامنة وراء الرمي العشوائي للقمامة يتمثّل في سببين. الأول هو عدم وجود مطامر ومعالجة فعّالة للنفايات من خلال انشاء معامل فرز في المنطقة. والسبب الآخر، هو تضاعف كميّة النازحين السوريين في المحافظة. وتعتبر بلدة حونين الفوقا أصدق دليل على ذلك، حيث بلغت نسبة اللاجئين فيها 50% من سكان القرية. هذا ما جعل من مشكلة النفايات عصيّة على الحلّ من قبل البلديات. فيما تتمثّل الحلول حسب ما يشير بالمحارق التي رفضتها الدولة اللبنانية، بعد الأزمة التي واجهتها محرقة ضهور الشوير. أما معامل الفرز، فكلفتها تصل الى 1800000 دولار، وهو مبلغٌ خارج عن قدرة البلديات على تحمّل أعبائه.


ويسلّط الضوء على أزماتٍ متعاقبة تشهدها معامل الفرز في المنطقة، والتي تعتبر سبباً من أسباب تجلّي الأزمة. يقول: "وقّعنا عقداً مع معمل في منطقة الكفورة، وهو لم يبدأ العمل فيه حتى اليوم. في القديم كان هناك معمل في جباع في اتحاد بلديات اقليم التفاح، لكّنه توقّف في عهد البلديات المتعاقبة، ولم نكن نحن على رأس البلدية لمعرفة ظروف توقيفه، لكن المعلوم أنه لم يؤدي الغرض المطلوب منه. حصل ذلك بعد تكدّس النفايات فيه لمدّة تزيد عن 48 ساعة، ما كان يسبب معاناة للسكان المحيطين بالمعمل من روائح كريهة وامراض خصوصاً في ايام الصيف".


يصرّ نعمة على التأكيد أن غالبية بلديات وقرى اقليم التفاح وقضاء النبطية تعاني من أزمة النفايات. ويسرد أن "هناك مكبًّا استحدثناه في خراج البلدة نرمي فيه النفايات. لكن استمرار الوضع على هذا النحو كارثيّ بالنسبة للبيئة وللسكان على حدٍّ سواء. ونحن لم نبادر الى استحداث خطة في هذا الشأن سابقاً، لأن مشكلة النفايات كانت تعتبر أزمة شاملة، وغير مقتصرة على منطقة محدّدة. أما المشكلة الثانية، فتتمثّل في ان ولاية البلديات الجديدة لم يتعدى عمرها الشهرين". ويلفت الى "أننا نحاول ايجاد حلول للمشكلة، وننظر الى الملفات من عين المسؤوليّة ولا بد من متابعة الموضوع مع اتحاد بلديات الشقيف واقليم التفاح. عملية الفرز من المصدر لا تنجح في جميع القرى. وبالتالي المطامر هي الحل، ولكننا نعود الى الدوامة نفسها في حال رفضت كلّ قرية توضيب نفاياتها".


من 70 الى 100 ألف ليرة... سعر بالكاد يسدّ النفقات
لعلّ أحدث الأمثلة على الواقع المزري الذي تعانيه معامل فرز النفايات في لبنان، هي قصّة بلدة عربصاليم الجنوبية. رئيس بلديتها الأستاذ محمود حسن، يتحدّث لـ"النهار" من قلبٍ متحسّر على انجازاتٍ قد يغيب حضورها. يقول: "تتميّز بلدة عربصاليم بفرزها النفايات من المصدر منذ العام 1995، حيث تتواجد جمعية ومعمل لفرز النفايات، ولكننا نطالب الدولة اللبنانية باتخاذ مبادرة لدعم الانتاج وتشجيعه ودعم سعر السوق. واقعيًّا، الجمعية لا تزال ناشطة ولكنها تحتاج الى مساندة كبيرة، رغم الدعم الذي أولتها اياه البلدية. غير ان ذلك لا يكفي".


يشرح حسن أن أسعار مبيع المواد المعاد فرزها متدنيّة وتكاد تكون شبه ميتة، حيث يراوح مبيع شاحنة متوسّطة الحجم من الكرتون او الزجاج او البلاستيك ما بين 70 الى 100 ألف ليرة يتمّ بيعها لصالح مصانع في ضواحي العاصمة بيروت. هذا فضلاً عن الاعتراضات الكبيرة التي يواجهها البائعون من قبل اصحاب المصانع حول مسألة نوعية الانتاج المباع وشكله. ومن الأمثلة على ذلك الملاحظات الموجّهة حول لون الزجاج، كالقول إن "الزجاج الملوّن لا يهمّنا"، ما يؤدّي الى بيع الحمولة بأسعارٍ زهيدة.


وعن امكانية اقفال المصنع قريباً في حال تعذّر توفّر دعم سعر المبيع، يؤكّد أنه "في حال لم يتم دعم الجمعية، فهي بالتالي لن تستمر. لدينا الحل لكن لا يوجد لدينا دعم ونعاني من سوء في التصريف، ما يفقدنا الحماسة الى الفرز. المصنع لا يزال قائماً حتى الساعة ويفرز قسماً كبيراً من نفايات المنطقة. لكننا نطلب زيادة الأسعار، ونطلب من الدولة دعمها والوقوف الى جانب الجمعيات لحل الأزمة الحالية. كما أننا بحاجة الى دعم في مسألة تأمين مستوعبات النفايات. ويختصر الموضوع بعبارة واحدة: "التخوّف من توقّف المصنع عن العمل في حال لم تبادر الدولة الى انقاذ الوضع".


حسدتها الوقائع. بلدات لبنانية قليلة استطاعت لعقودٍ من الزمن تحصين نفسها من فوضى القمامة، تتحضّر اليوم لاستقبال كارنفال أكياس النايلون نفسه. عسى ان لا تستسلم الشاحنة. او ان تعجز عن السير قدماً في طريق العودة الى البلدة. يا خوفي ان تعود وطنين الزجاج ينذر بكساده فيها. فتتوقّف في منتصف الرحلة. عطشانة الى رائحة البنزين، ولا تجد للمحطة سبيل.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم