الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

مقبرة المدينة

عقل العويط
عقل العويط
مقبرة المدينة
مقبرة المدينة
A+ A-

الساحة حزينة. الشوارع حزينة. الأرصفة حزينة. المقاهي حزينة. المحلات حزينة. الأشجار حزينة. الحياة نفسها حزينة. هذه هي باختصار حال الوسط التاريخي للمدينة. ما مررتُ يوماً بهذه الأمكنة، وأنا أمرّ بها كلّ يوم، إلاّ وجدتُ مزاجها واجماً، ومتألماً. فراغها يأكل الفراغ. وعدمها يلتهم العدم. هاكم مدينةً تتلوّى في عذاب الفراغ وهول العدم!


لو أرادت هذه الأمكنة أن تروي حكايتها لفضّلتْ أن تؤوب إلى الصمت المريع، وأن تأوي إلى ظلمة الغيبوبة، كي لا تُحشرج، ولا تنكشف. ما أصعب أن تتعرّى ساحةٌ أمام مراياها البكماء، فلا تجد حمايةً ولا حناناً ولا أسلوباً للعزاء.
أصف فحسب، ولا أتشفّى. أنا الذي حاله من حال الأمكنة، ليس من شأني أن أكون حيادياً أو لامبالياً حيال مسألة كهذه. موت المدينة، موت وسطها التاريخي، هو موتٌ جنائزيٌّ كئيبٌ لي، ولكلّ واحدٍ منا. هذا البطء السلبيّ المفجع كم يشبه بطء الحشرجات اليومية في حياة العزّل الموجوعين واليائسين، أبناء البلد، الذين أُسقِط في أيديهم، وصاروا شهود اللعنة الوجودية المشتركة و... شهداءها.
الموتُ لا يُرى في المقابر فحسب، ولا في ساحات القتال، أو فقط في المدن والدساكر الخربة. إنه هنا. في الهواء. في المزاج. في الخيال. وفي الافتراض. يُرى هنا، ويُعاش هنا، ويبسط يده الثقيلة هنا، لكن من دون جيوشٍ وطائرات وبراميل متفجرة وشبّيحة ومرتزقة للقتل والإفناء. هنا القتلة يدبّرون الموت، ويرتّبون له الأسرّة الجماعية، والضرائح، بحيث تصير المدينة هي المكان وهي المأوى وهي المقبرة.
يعزّ عليَّ أن لا أرى أمامي سوى ما أرى. لا شيء هنا يجدر بي أن أستخدم فيه كلام البهورة والعنف اللفظي والشتم وتبادل التهم. أمام الموت، ليس عندي سوى لغة الموت، وهي منسحقة، محشرِجة، لا هي يُسمَع لها أنينٌ، ولا تُكتَب بكلام.
ما أصفه ليس من السياسة في شيء. لكنْ، لو أن لأهل السياسة والحلّ والربط نزراً من حياءٍ "وطني"، لكان عليهم أن يفعلوا شيئاً ما، أن "ينتفضوا"، أقلّه، من أجل الشكل لا المضمون. فالساحة ساحتهم، والنجمة نجمتهم، والمجلس مجلسهم، والسرايا سراياهم، و... الموت موتهم. لكنْ، حتى التمويه لم يعد يعنيهم في شيء. يتمخترون، بدون أقنعة، في الساحة، في الشوارع، على الأرصفة، ويعبرون أمام المقاهي، وفي ظلال الأشجار الضجرة. مَن منهم يؤثر التخفّي، يكتفي بتحريك الدمى لتشارك في مسرح الموت هذا.
الجميع فوق الخشبة، خشبة المسرح هذه. الجميع في غنىً عن الوصف. إنها المقبرة. وهم حرّاسها... وجثثها!


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم