الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

مارسيل خليفة حلّق بموسيقاه في سماء البترون: القتل مستمر وخلاصنا الحبّ

المصدر: "النهار"
فاطمة عبدالله
مارسيل خليفة حلّق بموسيقاه في سماء البترون: القتل مستمر وخلاصنا الحبّ
مارسيل خليفة حلّق بموسيقاه في سماء البترون: القتل مستمر وخلاصنا الحبّ
A+ A-

تأخّر الحفل قليلاً، لكنّ هواء البترون بدّد الانتظار. المراكب ترسو في الميناء؛ تتأرجح بدلع إن هبَّت نسمة، والأضواء تجعل من المسرح وأجوائه لآلئ صيفية. التاسعة والثلث مساء السبت، أطلّ #مارسيل_خليفة على جمهور مهرجانات #البترون الدولية بكاراكتير رصين هادئ. لم يطيّر الهواء شالاً أبيض لفّه على كتفيه، فتلاقت تدرّجات اللون مع شيبة الرأس لتمنح صاحبها وقاراً جميلاً.



 


رحَّب بجمهور البترون والجمهور الآتي من الجبل والجنوب وبيروت، وقال إنّ الفرح حمله على الغناء في مدينته الثانية بعد جبيل. بدا خليفة متعلّقاً بالمكان؛ تفاعل مع تفاصيله، تنفّس أجواءه ورذاذ البحر والملوحة. أتى إلى البترون فملأ القلب بهجة. حاكى لقاء الضوء بسواد الليل، وجعل من اللونين النقيضين دافعاً لدهشة موسيقية. بدأ بمعزوفة "أندلس الحب"؛ بالشجن الكثير في النوتة؛ بانتفاضة الروح على الأجساد المكسورة. ليلةٌ شكّلت مزيجاً من الخفقان وفورة الذاكرة. غنّى نضال الأمس وقلب اليوم النابض، والتحية وجيلها واستعارة العبور إلى الذات. تحدّث عن الحب وتعمّد الافتتاح به، فهو "أجمل من الحرب، وأكثر ما ندركه هو أن نُحبّ". ثم غنّى "ريتا"، فتحوّل الجمهور (كالعادة) كورالاً عفوياً. "والذي يعرف ريتا، ينحني ويصلّي لإله في العيون العسلية"، فمازح أصحاب الحناجر: "شكراً لأصواتكم الجميلة".



 


مليون عصفور و"لطشة"


ليت حُسن المزاج ترافق مع فنجان قهوة نصنعه بأيدينا على جمر ملتهب. "تِرِرَم تِرِرَم... بيننا مليون عصفور وصورة/ ومواعيد كثيرة/ أطلقت ناراً عليها/ بندقية". لا نزال بين عيون ريتا. الهواء يغمر الروح ويكاد يرفعها غيمةً في جوار نجمات بعيدة. ترك الحفل شعوراً بعظمة موسيقى قادرة على خَلْق كائنات تحلّق. ما إن هَمَس بـ"منتصب القامة أمشي"، حتى ارتفعت أصوات جمهور تراءى أنّه أمضى العُمر مدندناً: "مرفوع الهامة أمشي/ في كفّي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي"، ثم يتعثّر كالعادة بـ"وأنا وأنا وأنا أمشي".



 


 ولعلّ خليفة لمح وجوهاً صامتة، فلم يوفّر لطشته: "كمان الوزراء فيهن يغنّوا". قصد الحضور الرسمي من وزير السياحة ميشال فرعون والثقافة روني عريجي والإعلام رمزي جريج وطبعاً ابن المنطقة وزير الخارجية جبران باسيل. راق الجمهور اللطشة فصفّق، ولم يطل الوقت فألحقها خليفة بأخرى ليُبلغ المتحمّسين لـ"البحرية" و"الهيلا هيلا" أنّ عليهم انتظار الختام لسماعها: "مجلس وزراء ما في، خليكم معنا. السهرة طويلة". التفاعل يجعل الحفل حميمياً ويؤكد أنّ الوقت الجميل يمرّ سريعاً وابتسامات القلب لا يضاهيها صدق. يضيف خليفة إلى فكاهة التعليق، إمكان حَبْس الأنفاس بتفوّق الموسيقى. مدهشاً كان ذلك الخليط بين الآلات، وآسراً، يُخيِّل إليك أنّك تمسك الكون في قبضة، وأنّ رامي خليفة على البيانو مثل مجنون بشغف العزف وارتطام الموج بصخرة، ورفرفة طير لا يخشى الارتفاع. الفرقة بأسرها نسيج يصنع عظمة اللقاء بين المجد والموسيقى، فتذهل السامع، وترتفع الأيادي المصفّقة، ويشهد الحضور على لحظة فنّ فريدة تتقنها أنامل رامي على البيانو، ومارسيل على العود وكلّ نَفَس في التركيبة، إلى أن يبلغ الجمال ذروته مع إعلان قتل الهوية: "كلّ قلوب الناس جنسيتي، فلتسقطوا عني جواز السفر"، فيُشعل التصفيق الليل.



 


"أين أنتَ يا سايد؟"


لا تزال المراكب تتأرجح كلّما هبّت نسمة، كأنّه ترنُّح القبلة الأولى. إلى جانبها، وقف متفرّجون حالت عوازل حديد بينهم وبين المسرح، فشاهدوه من خارج الصورة. أرادهم خليفة في الداخل، فنادى من أجل تكسير الحواجز وملء بعض المقاعد الفارغة بالواقفين: "أين أنتَ يا سايد ليدخل الناس؟"، فلم يُجب أحد. ظلّ المتفرّجون عن بُعد متسمّرين على الأرجل، سعداء بالجوّ والفرح والموسيقى، وإن شعرت القدمان بألم وطرح العقل أسئلة عن مساواة الفرص.


الآن إلى "طَقْ طَقْ طَقْ طَقْ طقتيني/ طقطقت وما سقيتيني/ والليلة بدي خلّي الكاس يفزّ يبوس القنينة". الأيادي ترتفع والجميع تقريباً يصفّق. لا ندري حال الصفّ الأول، لكنّ الجمهور في الخلف تصفيقٌ دائم وغناء لا يأبه لنشاز. عن الشراب والقنينة، قدّم خليفة للبترون أغنية كتب كلماتها جورج خباز الحاضر في السهرة. "عَصخرة المينا"، من أجواء الـ"هيلا هيلا"، فرِحة، حرّة: "رقّصنا يا موج عصخرة المينا/ (...) وشراب يلا شراب/ بكرا بتصير تراب"(...) و"كاس يلي فلّوا عغفلة وما ودّعوا ناسن". إلى هذا الحدّ تُنسيك العُمر وهمومه.



 


تحية


يُرخي خليفة يداً يعانق بها العود ويغمض عينيه كالإبحار العميق في الرأس. للعشاق، عزف الحبّ وغنّاه، كما غنّى ذاكرة الأرض وزمن النضال. لم تكن ليلة البترون تباكياً على ما فات، بل تحية له، بتحوّلاته وتبدّلاته وأثر المراحل في القضية. "يا حادي العيس سلّملي على أمي/ واحكي لها ما جرى واشكي لها همي/ وما هم يا أم أن يقتلوني/ وأن يزرعوني على جذع كفيكِ/ كالبيرق المستحيل". وجّه لكاتبها شوقي بزيع شكراً على قدومه من صور إلى البترون، ولروح مَن كُتبت إليه تحية. قال إنّ القتل مستمر منذ ذلك الوقت، والحياة عبث وجنون، وليكن الحب خلاصاً إنسانياً. تحية أخرى إلى الشاعر محمد العبدالله، العبثي المجنون الرائع، بعد قصيدة قرأها خليفة وعزف رامي عذوبة لحنها، كأنّهما معاً يرفعان كأس العبدالله إلى حيث الحرية.


[email protected]


Twitter: @abdallah_fatima


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم