الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

خوفاً من عودة "خميني" تركيا

سليم نصار
خوفاً من عودة "خميني" تركيا
خوفاً من عودة "خميني" تركيا
A+ A-

يوم الأحد الماضي سأل مذيع شبكة "سي ان ان" وزير الخارجية الأميركي جون كيري عن مدى صحة الاتهامات التي وجهها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان إلى فتح الله غولن، باعتباره الرأس المدبر لمحاولة الانقلاب. ولما أنكر الوزير علم إدارة الرئيس باراك أوباما بأي دور قام به اللاجئ السياسي غولن ضد النظام الحاكم في تركيا، عاجَلَه المذيع بسؤال محرج يتعلق باحتمال تسليمه الى أنقرة، حسبما طلب اردوغان.


أجاب الوزير كيري بأن عملية تسليم رجل الدين غولن تقتضي من الحكومة التركية تقديم أدلة قانونية مرسلة من وزارة العدل. وفي حال إستوفى الطلب المعايير القانونية الملائمة، فان ذلك يُحال الى لجنة سياسية مختصة بشؤون اللاجئين السياسيين. وفسرت وزارة العدل الأميركية شروط "المعايير الملائمة" بألا يكون الإعدام هو القصاص، كما لمَّح الرئيس اردوغان.
وكان غولن نفى للصحف الأميركية تورطه بأي شكل من الأشكال في محاولة الانقلاب. ثم إتهم بدوره أردوغان بافتعال أزمة الانقلاب العسكري بغرض الانتقام من خصومه الذين يمانعون في تعديل الدستور لصالح النظام الرئاسي.
ولكن، هل هذا كل ما يطمح اردوغان الى تحقيقه من وراء إفتعال عملية الانقلاب؟
خبير مركز الأمن الاميركي الجديد إيان غولدنبرغ رأى في الانقلاب مبرراً لزيادة قبضة أردوغان على الحكم بشكل مطلق، وقال إن هذا التحول سيزيد الغموض في علاقة تركيا بالولايات المتحدة. وهذا ما أكده مؤلف كتاب "اللعبة الطويلة" دريك شوليه الذي وصف تلك العلاقة بـأنها "ستتحول من سيئ الى أسوأ".
وهذا يستدعي بالضرورة مراجعة سيرة الخصم الذي حاربه اردوغان بإخراج تمثيلية دموية يصعب على شكسبير إخراج واحدة مثلها. وهناك مَنْ يتصور أنها أكثر تعقيداً من مسرحية "يوليوس قيصر" التي كتبها الشاعر والمسرحي الانكليزي للتدليل على أهمية الجماهير في تحريك مجرى الأحداث، أو لإظهار أهمية الكلمة في تغيير مجرى الأحداث.
الخصم الذي نعنيه هو محمد فتح الله غولن، المولود في أرضروم بتركيا يوم 27 نيسان (أبريل) 1941. ويقول علماء كشف الطالع في طبائع الشخص المولود في هذا اليوم، وتحت هذا البرج، إنه إنسان مجتهد، يتحلى بالرؤية الثاقبة، والقدرة على اتخاذ القرارات الحكيمة. وهو مطبوع على حب المساكين والمهمشين، إضافة الى الرغبة في تحدي الصعاب وكل ما يعترض طموحاته.
ويُستدَل من مراجعة السيرة الغنية لمحمد فتح الله غولن أن حياته الحافلة بالجهاد جعلته نسخة صحيحة لما وصفه به علماء كشف الطالع. وقد ساعده على تنمية شخصيته والده رامز أفندي الذي كسب عنه الإبن حب العلم والأدب والدين. كذلك لعبت والدته رفيعة خانم دوراً مبرزاً في تلقينه أصول الدين وحفظ القرآن الكريم.
وبسبب حبه للغات، قام والده بتدريسه اللغتين العربية والفارسية، الأمر الذي سهل عليه حضور الجلسات التي كانت تعقد للعلماء والمتصوفين في تلك المنطقة. وفي صباه درس البلاغة وأصول الفقه والعقائد بإشراف أبرز فقهاء عصره عثمان بكتاش. وقد أهلته تلك الثقافة إلى التعرف على العلامة بديع الزمان سعيد النورسي، مؤسس الحركة التجددية ومؤلف كتاب "رسائل النور".
وعندما بلغ محمد فتح الله غولن العشرين من عمره، عيّن إماماً في جامع مدينة أدرنة حيث قضى فيها نحواً من ثلاث سنوات أمضاها في الزهد والتقشف وخدمة الناس. وبدأ عمله الدعوي في جامع أزمير. ومنه انطلق واعظاً متجولاً في كل أنحاء غرب الأناضول. وبعد أن لاقت دعوته الترحاب، ساهم في إنشاء عدد كبير من المدارس.
كما حفزته القيادات السياسية وشجعته على إصدار الصحف والمجلات، وشراء مطابع وتأليف كتب وإقامة محطة إذاعة وقناة تلفزيونية. وعقب إنهيار الاتحاد السوفياتي، إخترقت أعماله دول آسيا الوسطى. والمؤكد أن أصداء تلك الأعمال الانسانية ترددت في الفاتيكان، الأمر الذي دفع البابا يوحنا بولس الثاني الى توجيه دعوة خاصة له.
على عكس نجم الدين أربكان، الذي يعتبره الأتراك الأب الروحي للإسلام السياسي الذي غرَف من أفكاره أردوغان الشيء الكثير، فإن الشعب التركي يرى في فتح الله غولن الأب الروحي للإسلام الاجتماعي. وتشبه منجزاته على الصعيد العالمي منجزات "حزب الله" على الصعيد المحلي، أي تقديم الخدمات للمحتاجين.
وتُعتبر "حركة غولن" الحركة الدينية الأكبر داخل تركيا، وفي جمهوريات آسيا الوسطى والبلقان والقوقاز وروسيا والمغرب وكينيا وأوغندا. لهذه الأسباب وسواها، أطلق على تلك الحركة إسم "هيزمت" والتي تعني بالعربية "الخدمة". وبما أنه إعتاد على تقديم الخدمات، فقد تولى أتباعه في الولايات المتحدة إدارة شبكة واسعة من الجامعات والمستشفيات والجمعيات الخيرية والمدارس المجانية.
ويبدو أن أردوغان كان يغار من صديقه القديم إلى حد الهوس، ويحرص على عرقلة مشاريعه القائمة في إفريقيا والقوقاز والبلقان. من هنا إستغراب الدول الكبرى من الاهتمام الزائد الذي ركزه على القارة الافريقية التي افتتح فيها 25 سفارة على امتداد السنوات العشر الماضية. والملفت أنه وصف أثناء زيارته الأخيرة لإفريقيا حركة "هيزمت" بأنها حركة "إرهابية" كونها تتحدى الدولة التركية، وتسرق دورها في ميادين الإعلام والثقافة وفتح المدارس.
وعملاً بسياسة الملاحقة والحصار لكل المواقع التي يدخلها غولن، رفع أردوغان ميزان استثمارات بلاده في السودان الى ستة بلايين دولار. ومن المتوقع أن يفتتح بعض رجال الأعمال الأتراك مكتباً في الخرطوم بهدف تسهيل إجراءات التنقل والاستثمار.
في مؤتمر صحافي عقده في القرية الريفية التي يقطنها في ولاية بنسلفانيا، أعلن فتح الله غولن (75 سنة) تبرؤه من أي علاقة بالانقلاب العسكري. ووصف تصرفات زعيم حزب "العدالة والتنمية" رجب طيب اردوغان بأنها مماثلة لتصرفات روبسبيار، المستبد الظالم الذي خطف الثورة الفرنسية.
في زحمة التهليل لفشل الانقلاب، وبهجة المواطنين لانتصار حزب "العدالة والتنمية"، تجاهلت حكومة بن علي يلدريم تحذيرات رئيس نقابة المحامين علي أرسلان الذي طالب بضرورة الالتزام بمبدأ محاكمة الانقلابيين أمام العدالة. وهو اعترض في أول تصريح له على سرعة إصدار مذكرات الاعتقال بحق 140 عضواً من المحكمة العليا و48 فرداً من المجلس الدستوري، و2745 قاضٍياً ومدعٍياً عاماً. إضافة الى توقيف 18 ألف ضابط شرطة عن العمل، والقيام بحركة تطهير طاولت نحو 60 ألف شخص.
كذلك تجاهل وزير الخارجية التركي مولود تشاووش اوغلو التساؤلات التي أطلقتها مجلة "دير شبيغل" الألمانية حول ضمانات المحاكمة العادلة. وقالت في افتتاحيتها إن حكم الخيانة صدر بسرعة فائقة قبل إجراء أي تحقيق مسبق يفرضه نظام العدالة.
والملفت في هذا السياق ما ذكره السفير صالح مطلوشن، ممثل تركيا لدى منظمة التعاون الاسلامي. ففي مؤتمره الصحافي الذي عقده في جدة، أعلن ان "لدى الحكومة علماً مسبقاً باحتمال وقوع انقلاب". ولم يسأله أحد من الحضور لماذا تركت الحكومة الانقلابيين ينفذون مؤامرتهم إذا كانت فعلاً على علم مسبق بها. ثم استطرد ليفسر الطريقة التي تمت بها الاعتقالات، ويقول: "إن عدداً كبيراً من الانقلابيين يعملون في مؤسسات حكومية. ومعظمهم يسكن في منازل أمنتها لهم الدولة، الأمر الذي يوفر لها المعلومات عن عناوينهم وأماكن عملهم". ثم زاد: "هناك عدد كبير من المتورطين في محاولة الانقلاب تركوا وراءهم قوائم ومراسلات تفضح أسماء المتعاونين معهم في العملية الفاشلة".
ويُستفاد من كل هذا أن خطة الانقلاب كانت جاهزة بكل تفاصيلها، حسبما صممها ونفذها رئيس المخابرات هاكان فيدان، الذي يلقبه اردوغان بـ "كاتم أسراراه"... في حين يصفه الشعب بـ "الثعلب".
وترى صحيفة "معاريف" أن التأييد الذي حصل عليه اردوغان في الداخل والخارج يسمح له بإجراء تطهير عميق في الجيش، وتحييد خصومه في جهاز القضاء، وإحكام سيطرته على وسائل الإعلام. وترى جماعة فتح الله غولن أن لوائح الانتقام وُضعت مسبقاً، وأن "المتآمرين" تركوا بالصدفة أسماء المتعاونين معهم بحيث تستخدم في المحاكم كشهادات إثبات.
وفي تصور هذا الفريق، إن توقيت موعد الانقلاب اختير مع عطلة اردوغان في فندق ناء يقع في منتجع مرمريس. كل هذا كي يقال إن الأحداث جرت من دون علمه، وإنه فوجىء بوقوعها.
الأندية السياسية في لبنان تتذكر أن "المكتب الثاني" في مطلع عهد الرئيس فؤاد شهاب قام بمراقبة خطوط هواتف قادة الحزب السوري القومي الاجتماعي، عندما بلغه أنها تستعد للقيام بانقلاب ضد نظام بدأ يميل نحو جبهة جمال عبد الناصر، لذلك حصل الحزب على تأييد القوى اليمينية المتطرفة ضد سياسة عبد الناصر. ويعترف المحامي والأديب عبدالله قبرصي في مذكراته بأن أحد ضباط "المكتب الثاني" أبلغه أن خطه مراقب، وأن قيادة الجيش تنتظر ساعة الصفر.
وبالمقارنة مع حركة الانقلاب في تركيا، فإن اردوغان كان على علم مسبق بالتوقيت لأنه هو الذي هيأ الأجواء بواسطة استخباراته، ولأنه هو الذي إفتعل المحاولة ضد فتح الله غولن. والهدف من كل هذا منعه من العودة الى تركيا، لأنه يرى فيه نسخة أخرى عن "الخميني"، وأن هذه العودة ستزعزع دعائم حكمه.
الولايات المتحدة ودول الاتحاد الاوروبي لا ترى في معارضة غولن أمراً مستغرباً أو مستهجناً، وهي ترى في انتقاداته السياسية عملاً دستورياً يفرضه النظام الديموقراطي. والدليل أن حزب العمال البريطاني يملك جهازاً مساوياً في المراقبة والمسؤولية شبيه بجهاز الحكومة. وبما أن هذه الدول لا تعترف بنظام الحزب الواحد، فإن ما يخطط له رجب طيب اردوغان يُعتبر من بقايا الأنظمة الديكتاتورية... أو من بقايا نظام السلاطين!


كاتب وصحافي لبناني

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم