الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

عن سدود عدة وانسداد الأفق: عفواً منك جيولوجيا

د. عطا الياس*
عن سدود عدة وانسداد الأفق: عفواً منك جيولوجيا
عن سدود عدة وانسداد الأفق: عفواً منك جيولوجيا
A+ A-

تُعرَّف الجيولوجيا على أنها العلم الذي يختص بدراسة كوكب الأرض وطبيعة مكوناته، توزُعِها وتطورِها. لهذا العلم تطبيقات عملية عدة تتداخل مع نواحٍ مختلفة من حياتنا اليومية. تضطلع الجيولوجيا أيضاً بدور مهم في الإقتصاد إذ تعتبر الدراسات الجيولوجية الأساس في عمليات التنقيب عن النفط والغاز والمناجم لتأمين الموارد المعدنية كالمياه والأملاح والمعادن، وتحدّد قواعد الاستثمار الأمثل لهذه الموارد لضمان المردودات الاقتصادية على المجتمع. للتذكير، إن ثروات واقتصادات بلدان كبرى في الجزيرة العربية أو إفريقيا مثلاً هي نتيجة الواقع الجيولوجي لهذه الأقطار. وكان لاكتشاف النفط في نروج وتطوير صناعاته في سبعينيات القرن الماضي أثر إيجابي ضخم نقلها إلى مصافي الدول الغنية والمتطورة. تعلمنا أيضاً ضرورة أخذ الواقع الجيولوجي لمحيطنا الجغرافي بعين الاعتبار لتفادي أن تتحوّل، بسبب إهمالنا لقوانين الطبيعة، مجريات أحداث طبيعية مثل الانزلاقات الأرضية والهزات الأرضية والفيضانات إلى كوارث. لذلك تُعتمد الجيولوجيا كعامل أساسي في وضع التخطيطات المدنية وقوانين السلامة والتطوير العمراني وقواعد البناء. ليس أقل أهمية دور الجيولوجيا في فهم المُناخ وتغيراته الطويلة الأمد وتأثيرها في البيئة من طريق تأثيرها على وفرة المياه ومعدلات الحرارة والمتساقطات وارتفاع مستوى المياه في البحار إلخ.


في البلدان المتطورة تدرّس الجيولوجيا بحدّها الأدنى في المدارس فتضع في عقول الأجيال فهماً، وإن مبسطاً، لمفاهيم هذا العلم وأسسه.
وفي لبنان تُعرَف الجيولوجيا على أنها شماعة السياسيين والـ"ناشطين البيئيين" على حدٍ سواء، يختارون من قوانينها ما يلائم مصالحهم ليجعلوا منها مادة سجال وجدل. ولقد رأينا أخيراً كيف انقسم وتشنّج الرأي العام والخطاب السياسي على خلفية أمور عدّة، في أسسها جيولوجية، مثل النفط والمياه والمناخ والمخاطر الطبيعية وإنشاء المطامر والسدود... إلخ . فكان لكل فريق جملة من التقارير الجيولوجية التي تدعم خياراته السياسية أو التنموية وتنتقد و/أو تتناقض مع تقارير الفريق الآخر. زد على ذلك مسارعة العديد من الأشخاص لإبداء الرأي بالمواضيع الجيولوجية. فرأينا كيف انبرى أناس من مختلف الاختصاصات كالزراعة والهندسة المائية والمعمارية والمدنية، والفيزياء والكيمياء وعلوم البيئة، وعلم الفلك وعلم السمك، والتاريخ والجغرافيا، للحديث والوعظ والشرح في أمور الجيولوجيا، وعرضها على الملأ دون رقيب أدى إلى تكوين أفكار ومفاهيم خاطئة لدى الرأي العام غير المتخصص. ولقد شجّع على ذلك رغبة بعض الإعلام بملء مواقع وصفحات إخبارية من ناحية، ورغبة من هم في موضع المسؤولية العامة بإظهار اهتمامهم وحرصهم على دعم الجيولوجيا لمواقفهم، في غياب القدرة على التأكد من الصدقية والمرجعية العلمية للمصدر. وهذا أمر خطير، من جملة ما قد يؤدي إليه أخذ البلاد إلى نقاش لا نتيجة منه لأنه خارج سياق العلم الحديث والموضوعية، و/أو تشويه الحقائق العلمية لدى المجتمع وبث أفكار خاطئة غير مثبتة أو متناقضة مع العلم، مما قد يؤدي إلى موافقة الرأي العام على قرارات وطنية في أساسها خاطئة، أو رفضه لقرارات أخرى لاعتباره إياها خاطئة. وفي خضمّ التشنجات السياسية والإعلامية حول هذه المواضيع، أصبح من المستحيل على أي ذي اختصاص عند الإدلاء برأي علمي موضوعي ألاّ يصبح موضع تصنيف في إحدى الخانات السياسية المتحاربة، مما يؤدي لإيجاد حالة من الشك لدى المجتمع بالمؤسسات العلمية الموجودة وأعضائها.


لقد ساعد على الوصول إلى هذه الحالة عوامل عدة، منها:
١- عدم وجود نقابة متخصصة للجيولوجيين في لبنان. فللنقابات المتخصصة دور أساسي في رفع مستوى المهنة وحمايتها، وإفادة المجتمع من خبراتها المهنية. تُعتبر النقابات بمثابة مرجعية وطنية تكون الضمانة للحفاظ على مستوى عالٍ من الكفاية لدى أعضائها، وتمثل المرجع عبر مجالسها لإيضاح أي نقطة خلافية ذات إفادة عامة. ولقد جرت محاولات قليلة لإنشاء نقابة للجيولوجيين في لبنان، فشلت لأسباب مختلفة.
٢- عدم وجود اعتراف وطني بأهمية هذا الاختصاص وتشجيعه، لا بل تشريع تشجيع المهن الأخرى على حساب الجيولوجيا. ففي بلد دخل فعلياً في مضمار الإستكشافات النفطية، وتعتبر صناعة البناء وما يدور حولها من صناعات وأعمال استشارية من أهم موارده الإقتصادية عدا عن أهمية قطاعات المياه والبيئة وغيرها، ليس ثمة قوانين لحماية الاختصاصيين من أبناء البلاد ولا من رادع لاستقطاب جيولوجيين أجانب لوضع الدراسات المطلوبة. وفي معظم الأحيان، إن القوانين المرعية لا تعترف بأهمية وضرورة مشاركة جيولوجيين في الدراسات الأساسية للمنشآت الكبرى مثلاً، فلا تعترف بتوقيع من غير أهل الاختصاص على هذه الدراسات.


٣- غياب الجيولوجيا عن المناهج في المدارس اللبنانية، ما عدا بضعة حصص في كتاب الجغرافيا والعلوم، وفي معظم الأحيان، يُستغنى عنها لصالح فقرات أخرى من المنهاج ربما لأنّ المدرِّسين يعتبرون الجيولوجيا موضوعاً عقيماً. فلولا وجود بعض المدارس التي تتبع المناهج الأجنبية في صفوفها، لكانت كلمة جيولوجيا غائبة عن ذهن أجيال عديدة من الطلاب. والوضع ليس أفضل بكثير في التعليم الجامعي إذ ينحصر إختصاص الجيولوجيا في قلة قليلة من الجامعات فقط. وهو بالمجمل يندرج في سياق المقررات غير الإلزامية أو المحدودة الأفق. فلا يوجد تنوع في الاختصاصات الجيولوجية تظهر غنى وحقيقة هذا العلم مما يزيده رتابة ويقلل من قابلية الطلاب إليه.
٤- ويبقى العامل الأساسي هو غياب فرص العمل للخريجين أصحاب هذا الاختصاص. فبالرغم من قلة عدد المتخرجين فيه، المتفاوت مع سعر برميل النفط العالمي، نجد معظمهم يعانون صعوبة الدخول إلى سوق العمل بسبب قلة الوظائف في السوق الوطنية، فيضطرون للعمل في مجالات أخرى في لبنان والخارج مما أفرغ البلاد من خيرة كفاياتها في هذا الإختصاص.


في جبالنا فوالق إذا ما تحركت، قد تهرق أرواح كثيرة وتمحو من بلادنا عقوداً عدة من التطور والعمران. في أرضنا، ذهب من حجارة، جمعت طيلة ملايين من السنين، وتداخلت بين حبيباتها ثروات عديدة من مياه وربما نفط وغاز ومعادن. في مياهنا طاقة أصبحت محط أنظار ومطامع الأبعدين والأقربين وحتى أهل البيت أصحاب المصالح الخاصة. في كل هذه الأمور الجيولوجية مصالح استراتيجية مهمة لبناء دولة عصرية تؤمن ديمومة مجتمعاتها، حمايتها وإزدهارها. وللجيولوجيين اللبنانيين الدور الأساس في حماية هذه المقدرات وحسن إدارتها. فمن المعيب والمحزن أن نرى دولتنا والمسؤولين فيها يتفاخرون بمراجعة اختصاصيين أجانب ليفسروا لهم واقع الأرض تحت أرجلهم فيما خيرة الإختصاصيين من أبناء هذا البلد يبحثون عن عمل لهم في بلدان العالم ومنهم الكثير من الشباب ذوي الكفاية.


أما بعد، فإذا كان لسد جنة أو غيره من السدود ضرورة وطنية، فذلك لكونه قادراً على تحويل طاقة جيولوجية إلى طاقة تحرك العجلة الإقتصادية والإنمائية في مناطق واسعة من لبنان.
وأما الطاقات البشرية المخزنة في عقول الجيولوجيين الشباب من أبناء هذا الوطن ودفاترهم، فلأصحابها، حفاظاً على بعض من كرامة مهنتهم التي شوّهها كل من لم يتوانَ عن التكلم مستخدماً كلمة جيولوجيا من دون إلمام بها دعماً لمشاريع أو مآرب شخصية تحت غطاء بيئي أو إقتصادي أو غيره، إما ضرورة الرحيل من هذه البلاد أو التوبة عن هذا العلم، عملاً بمقولة أبو العلاء المعري:
ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً، تجاهلت حتى قيل أني جاهل.


 


باحث واستاذ قي الجيوفيزياء*


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم