الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

السينما الوثائقية تؤكد أن حياة فضلى ممكنة على الرغم من كلّ شيء!

السينما الوثائقية تؤكد أن حياة فضلى ممكنة على الرغم من كلّ شيء!
السينما الوثائقية تؤكد أن حياة فضلى ممكنة على الرغم من كلّ شيء!
A+ A-


مهرجان تسالونيك للفيلم الوثائقي حاول من خلال دورة غنية بأحدث الانتاجات وأجودها، أن يعيد الاعتبار إلى بعض الأسئلة التي تؤرق صنّاع الفيلم الوثائقي. في مدينة هادئة كلّ زاوية منها تذكّر بالتاريخ، حضرنا ما يعتبره كثيرون ثاني أهم مهرجان للأفلام الوثائقية في أوروبا بعد مهرجان أمستردام. عشرة أيام من المتابعة النهمة والانتقال من صالة إلى أخرى على وقع مشكلات العالم التي لا تنتهي سواء اتجهت الأنظار الى شمال القرية الكونية أو جنوبها.


الخيبات العاطفية والمظالم الانسانية والمؤامرات السياسية والدراسات العلمية، فأخطار البيئة والارهاب والأمراض المستعصية، هذا كله يجيء في سلة واحدة، كاملة متكاملة، يعيد تعريفك إلى العالم من خلال الصورة، ونعني بالصورة هنا: التجسيد.
معظم الأفلام تلجأ الى مواضيع سقيمة حيناً وقاتمة أحياناً، ما يدعو إلى التأمل وطرح السؤال الآتي: هل عالمنا على هذا القدر من الانحطاط أم أن المآسي أكثر قدرة على إلهام السينمائيين؟ سؤال يبقى مفتوحاً وربما يتراجع عنه المرء عندما يشاهد حماسة المخرجين في التهام العالم وتثبيت أقدام الكاميرات أرضاً لالتقاط ما آلت اليه الطبيعة البشرية في القرن الحادي والعشرين، الذي هو مع صوره شعار المهرجان.
انشغلت الدورة الأخيرة من تسالونيك كثيراً بقضايا الهجرة "غير الشرعية" من المناطق المنكوبة إلى البلدان الأوروبية التي فتحت ذراعيها لكل منكوبي العالم. لم يكن الوثائقي يوماً في منأى من المشكلات السياسية التي قلبت حياة البشر. لعل السينما هي الأسرع من بين الفنون كافة في التقاط التغييرات الطارئة والتشنجات الحاصلة. الوثائقي كان ولا يزال منصة لمناقشة الشؤون الآنية. فهو لا يحتاج الا إلى نظرة فذة يرميها المخرج على الواقع. الدورة الماضية شرّعت نافذة على مأساة اللجوء بعنوان "لاجئون: هروب الى الحرية؟". الأفلام المعروضة ركزت معظمها على استحالة العيش والتكيّف مع واقع جديد عند أناس لم يختاروا الزجّ بأنفسهم في هذه الظروف.
بداية، كانت لنا محطة مع حكاية إنسانية جميلة من الباراغواي، "لاندفيل هارمونيك"، لبراد أولغود وغراهام تونسلي، مع انني لا أعرف اذا كانت كلمة انسانية لا تزال تعني شيئاً في هذا العصر. استخراج الموسيقى من الزبالة؟ نعم هذا ممكن، وقد فعلته مجموعة شبان وفتيات في بلدة فقيرة وبائسة (ثاتورا) في الباراغواي تُستخدم مكباً للنفايات، يلمّ سكانها حاجتهم منه. بمساعدة فافيو تشافيز، استاذ الموسيقى الذي يدربهم على العزف، وبفضل الأيادي المباركة لأحد نابشي المكب الذي يصنع آلات الكمان والتشيللو من بقايا المهملات، تتشكل فرقة ستُعرف لاحقاً بـ"الأوركسترا المُعاد تدويرها". شهراً بعد شهر، تصبح الأوركسترا المؤلفة من شباب وصبايا فقراء من العشوائيات، معروفة في أنحاء العالم، وتتكرم احدى فرق الروك الشهيرة بضمها الى عازفيها. تقول صبية في الفيلم: العالم أرسل إلينا الزبالة، نحن أرسلنا اليه الموسيقى. في الختام، تعزف الأوركسترا سمفونية بيتهوفن في أحد المسارح الفخمة. يقف فافيو أمام الجمهور ويقول: أن تفتقر لأبسط الأشياء في الحياة ليس سبباً كي تمتنع عن محاولة الحصول عليها.
يصعب مشاهدة كلّ شيء في تسالونيك. عدد الأفلام المعروضة هائل. لكن هناك دائماً زميل أو صديق ينصحك بفيلم ما ويعطل حماستك لفيلم آخر. القاعدة الأهم هي عدم الركون إلى الملخص المنشور في كتيب المهرجان لانتقاء الأفلام التي تريد مشاهدتها. هذه الملخصات في معظم الأحيان لا تعني شيئاً للباحث عن فيلم تتوافر فيه شروط الفيلم الوثائقي الأقرب إلى السينما منه إلى المقال الصحافي. فالموضوع في الوثائقي غالباً ما يشكّل العامل الحاسم للجمور العريض، وهذا اتجاه سليم يمكن فهمه، لكن الوثائقي قد يريد أخذنا أبعد من ذلك وعدم الاكتفاء بمنحنا علماً وخبراً. هكذا دخلتُ مرةً إلى فيلم لأجده مقابلة مدتها 63 دقيقة بين مفكر يوناني والفيلسوف السلوفاكي سلافوي جيجيك. لقطة واحدة، لا سرد ولا مونتاج ولا حركة للكاميرا. مجرد نقاش حول مواضيع جدلية على قاعدة من كل وادٍ عصا. مضمون ممتع، لكن ما الفائدة السينمائية منه، الا اذا اعتبرنا أن الوثائقي هو ايضاً توثيق.
مئات الأفلام من عشرات الدول تُعرض يومياً بدءاً من الساعة الحادية عشرة حتى منتصف الليل، في صالات تستقطب أعداداً كبيرة من المشاهدين. المنظمون واضحون في مطالبهم: تعريف الجمهور اليوناني الى ما يدور حولهم في العالم. ما دامت وسائل الاعلام لا تقدم خدمة حقيقية الى الناس، وتتلاعب بالمعلومات وتسيسها وصولاً الى تغييبها الممنهج أحياناً وفق أجندات سياسية، فكان القرار عام ١٩٩٩ انشاء هذا الموعد السنوي بغية تثقيف المُشاهد اليوناني "كي يصبح ناخباً أفضل"، كما يقول مدير المهرجان ديمتري ايبيديس الذي نظّم هذه السنة دورته الأخيرة قبل اعتزاله.
هناك أقسام مختلفة تُدرج فيها الأفلام: نظرة الى العالم، حكايات للسرد، تسجيل ذكريات، بورتريهات ورحلات إنسانية، حقوق مدنية، موسيقى، قصص أفريقية وبانوراما يونانية. هذه الأقسام كافة تصبّ في رغبة واحدة: الاطلاع على كل مستجد ومثير. لكن هذا لا يكفي. الوثائقي ليس ريبورتاجاً تلفزيونياً. لا يبحث عن الموضوعية في نقل الخبر. فهناك في الوثائقي نظرة مخرج يتطلع إلى العالم من خلال عين الكاميرا، التي تختار أين تضعها لنرى من خلالها العالم الذي يصوره. اذاً، يعرف المبرمجون في تسالونيك ان الموضوعية ورقة خاسرة وان الذاتية هي التي في امكانها أن تحول تقريرا صحافيا إلى عمل سينمائي، طبعاً اذا كان أصلاً يمتلك مزايا سينمائية وفنية عالية.
الاقبال الذي يحظى به المهرجان منذ بضع دورات دليل على ان ثمة رغبة في الاطلاع والمعرفة لدى المشاهد اليوناني المقيم في هذه المدينة التي كانت مفتوحة ماضياً على شتى أنواع الغزوات الحضارية والثقافية، التي رسمت لها ملامح جديدة. هذه الغزوات حولتها ايضاً "جسر عبور" بين أوروبا والشرق. الأفلام المعروضة هنا حملت بعض الاجابات عن أسئلة يطرحها عموماً الفيلم الوثائقي الذي استطاع في سنوات الألفين من القرن الحالي، أن يخرج من التهميش والدونية اللذين فرضهما عليه الفيلم الروائي.
"بعد أفلام عدة تحوّلت إلى ظواهر شعبية"، يقول أيبيديس، "لم يعد الوثائقي مرادفاً لشيء ممل يُعرض على الشاشة. أراه بعكس ذلك، مسلياً. أنت على تماس مع الواقع. وتتلقى احساساً أكبر بالعالم وبمكانة الانسان فيه".
كان المهرجان أصغر حجماً عندما انطلق. اليوم صار يضم ستّ صالات وسوقا للفيلم يأتي اليها 60 تاجراً من حول العالم. في الدورة الاولى سجلت شبابيك التذاكر حضور 8 آلاف مشاهد. أما في الأعوام الأخيرة، فبلغ عدد المشاهدين نحو 50 ألفاً. الأعداد تزداد عاماً بعد عام على وتيرة 20 في المئة كل عام. في مقابلة سابقة مع "النهار"، قال أيبديس انه كان يريد منه أن يشكل مصدراً موازياً للمعلومات. فاليونان بالنسبة اليه بلد محافظ وملتزم الأخبار الصادرة عن الصحف المحلية ومحطات التلفزة الرسمية. مصدر الأخبار من الوكالة الوطنية ووكالات الاعلام الأجنبية ذات الميول الأميركية.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم