الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

مهزلة الأعراس اللبنانيّة

الأب باتريك كساب
مهزلة الأعراس اللبنانيّة
مهزلة الأعراس اللبنانيّة
A+ A-

لا أعرفُ ما ستكون ردود الفعل على ما سأكتبه، لأنّه ربّما أقسى ما كتبتُ إلى اليوم. منذ مدّة طويلة وأنا أٌسكِتُ أفكاري وأتجنّبُ التعبير عن غيرتي على بيت اللّه وأسراره، لكنّ النار التي تُشعلها في قلبي أكبرُ من أن تُخمَد. فها الكلمات تخرجُ منّي حرّةً رُغمًا عنّي، واللّه عارفٌ أنّها على قساوتها، ولدَت من حبٍّ صادقٍ لكنيستي وبلدي وشعبي. لا يُمكنني أن أصمت بعد اليوم عن "مهزلة" حفلات الأعراس اللبنانيّة.


حفلات تبذير الأموال


مع بداية "موسم" حفلات الزواج في لبنان يعودُ إليّ ذاك الألم السنويّ، حينما أرى ما وصلنا إليه اليوم، وكيف استوردنا عادات وتقاليد لا نفهمها ونجهلُ مصدرها أصلًا، وألصقناها في حدثٍ، يُفترضُ به أن يكون ولادة عائلة مسيحيّة مقدّسة، ليصير احتفالًا فارغًا، يدفعُ فيه اللبنانيّون جنى عمرهم، مقابل لحظاتٍ صغيرة من الكبرياء والتعجرف. فصارت الأعراس حفلاتَ تبذيرٍ بالجملة والمفرّق، تُصرفُ فيها آلاف الدولارات، للحصول على "عُرس الموسم". حتّى إنّ الكثيرين من أصحاب الدخل المحدود، يُضطرّون إلى التماشي مع الموضة السائدة، التي يفرضُها تجّار اليوم، لأنّ المجتمع لم يعُد يقبل التواضع، فنرى الأزواج يسيرون طوعًا إلى الذبح، ويسمحون للتجّار بنهبهم، ويقضون السنوات الطويلة في تسديد الديون التي صرفوها من أجل أشياء أكثر من تافهة.


حتّى الكنائس والأديرة والمزارات دخلت تجارة الأعراس وتورّطت في اللعبة، فصار اللّبنانيون يبحثون عن الكنائس والأماكن الجميلة والواسعة، فكنيسة الرعيّة لم تعُد مهمّة، وكأنّ الروابط بين العروسين ورعيّتهما زالت. فباتا يتكبّدان عناء البحث عن الكنائس الشهيرة، وحجزها قبل موعد العرس بأشهر عدّة أو ربّما سنوات، فقط للتبجّح أمام المدعوّين. ناهيك عن الأرقام التي تحدّدها الكنائس لقاء إضاءة هذه الثريّا أو تلك، ولقاء خدمات التبريد والتنظيف. إلخ. هذا طبعًا إذا قبل العروسان أن يتكلّلا داخل الكنيسة، فغالبًا ما يصرّان على قبول السرّ في المنتجعات السياحيّة، وعلى شطوط البحار، وفي الجلّ تحت التينة، وكأنّه لا حاجة لمذبحٍ كرّسه الأسقف، ولا حاجة لبيت القربان، ولا حاجة للجماعة المصليّة. ربّما غاب عن علم الكثيرين أنّ الزواج سرٌّ مقدّس...


رموز لا معنى لها


مضحكةٌ ومبكيةٌ تلك الرموز التي يصرّ الجميع عليها حتّى من دون أن يعرفوا معناها.


فبات من غير الممكن أن نشارك في عُرسٍ من دون أن تُزعجنا فرقة "الزفّة" بعزفٍ ناشزٍ وبموسيقى نوريّة، مَن دَخَلَ باب الكونسرفاتوار يومًا قد يُغمى عليه عند سماعه الجملة الموسيقيّة الأولى. ولا أحد، وأنا متأكّد ألّا أحد، سأل يومًا من أين أتى ذاك التقليد. لأنّهم لو عرفوا أصله لرفضوه قطعًا. قليلٌ من البحث عن هذه العادة الهجينة قد ينفعك قليلًا عزيزي القارئ.


بعدها ينطلقُ الموكبُ نحو الكنيسة في سيّارات فخمة من الطرز الأخير، ويكون لونها غالبًا أبيض. بالطبع لا معنى أساسي لهذا الرمز، إنّما يدخُلُ في منظومة إرضاء الذات والكبرياء والتوهّم القليل أنّ الأحوال ميسورة، أو أقّله ستكون كذلك، فربّما البحبوحة صارت هي شرط السعادة الزوجيّة. لماذا لا يستطيع العروسان أن يأتيا إلى الكنيسة بسيّارتهما الخاصّة مثلًا؟


أمّا الكارثةُ الكبرى، فهي ساعة دخول العروسين بيتهما الزوجي. فبعد أن يكونا قد قبلا سرّ الزواج المقدّس في الكنيسة، يضعان فوق عتبة باب البيت عجينةً فيها النقود من أجل إبعاد الشرور عنهما! فصلاة الكاهن لا تكفي ربّما والعجينة هي الدواء لعيون الأشرار! غباء...


رموزٌ كثيرة إذا ما أردنا تفنيدها ملأنا المجلّدات، وبالطبع لا يعرفُ الكثيرُ من الناس ولو القليل عن أصلها ومعناها. ربّما لو وضعناها تحت المجهر لأزلنا معظمها لأنّها لا تطابق الإيمان المسيحي، بل تناقضُهُ.


تساعيّة احتفالات


كما استوردنا من هنا وهناك عددًا مهولًا من الحفلات التي لن تزيد السعادة الزوجيّة شيئًا، بل تكون مُربحة لأصحاب المقاهي والملاهي. فقبل حفل الزفاف، سهرةُ طلب يدّ العروس، وسهرةٌ طويلةٌ مع أصدقاء العروسين على الشاطئ أو في الملهى، وسهرةٌ في بيت أهل العروس، وسهرةٌ في بيت أهل العريس، وموضة جديدة عجيبة اسمها "حمّام العروس". بالمختصر، تساعيّة من الاحتفالات تسبقُ يوم العرس وتلحقُهُ. لا مانع من الفرح طبعًا. لكنّ تلك الحفلات، باتت مكتظّة برموز ذات طابعٍ جنسي، انطلاقًا من الملابس والأكسسوارات التي تجعلُها صديقات العروس عليها، مرورًا في مستوى المزاح والنكات وصولًا إلى شكل قالب الحلوى الجنسي. ويتحوّل الحضورُ فجأةً لمراهقين، اكتشفوا هويّتهم الجنسيّة للتوّ، ووجدوا فسحة التعبير عنها، لأنّ المجتمع كبتها لهم. ربّما القليلُ من النضجِ لن يضرَّ بشيءٍ.


بين الأساس والقشور


ربّما استرسلتُ وقسوت. ربّما بدوتُ رجعيًّا لا أحبّ الحياة. بالطبع لا، فأنا مع الفرح ومن يعرفني يُدركُ تمامًا أنّ البسمة ما فارقت وجهي يومًا. لكنّني متألّمٌ من التبذيرِ الأعمى، ومن الفوضى الأخلاقيّة التي ندخُلُها من دون إدراك. ليتنا قبل أن نعمل أي شيء، نسألُ عن معناه، نتحرّى في أصوله، فلربّما تكسبُ عاداتنا البعض من المعنى، فيصيرَ فيها الفرح أكبر.


من يحضّر حفل زفافه، فليفعله بفرح. فليبحث عن المعنى الحقيقي وراء كلّ تفصيلٍ. بعض التواضع يُغني القلب كثيرًا، ويمتدُّ نعمةَ قناعةٍ للسنوات القادمة في حياةٍ زوجيّة سعيدة. من يحتفل بزواجه، فليدخل الكنيسة بفرح، وهناك فليصلِّ. فوحدها رُتبةُ الإكليل أساسٌ والباقي قشور.


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم