الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

بين "البيارتة" و"بيروت مدينتي"... دروسٌ وعبرٌ

المصدر: "النهار"
جوزف يزبك-محامٍ
بين "البيارتة" و"بيروت مدينتي"... دروسٌ وعبرٌ
بين "البيارتة" و"بيروت مدينتي"... دروسٌ وعبرٌ
A+ A-

"البيارتة" في مواجهة "بيروت مدينتي"، والنتيجة فوز كامل للبيارتة بنسبة اقتراع لم تتخط الـ 21%.


تحمل أهميّة انتخابات السّنة 2016 الانتخابات البلديّة السّنة الكثير من الدّلائل التي لا بدّ من التوقّف عندها للتعلم، لا من باب المماحكات السياسيّة، حاشا، بل من أجل فهم أكبر للغز تفكير المواطن اللبنانيّ المعاصر، واستخلاص العبر في إطار سعي دائم نحو بلوغ مستقبل أفضل لأبنائنا.


أهمّ ما في هذه الانتخابات أنها لم تكن من باب التنافس السياسيّ بين أحزاب تقليديّة. فالأحزاب اجتمعت لمرّة على دعم لائحة موحّدة، بمواجهة لائحة منافسة يدعمها المجتمع المدنيّ من خارج الطبقة السياسيّة. إذا يمكننا القول أنّ الموضوع هذه المرّة لم يكن موضوع انتخابات فقط، إنما كان تمامًا بمثابة استفتاء شعبيّ، وأعطي الشعب اللبنانيّ لمرّة أن يختار ما بين الطبقة السياسيّة الحاكمة (التي يشتمها كلّ يوم) وبين المجتمع المدنيّ اللبنانيّ ممثلا بخيرة من رجالاته.
لا ريب بأنّ مثل هذه الفرصة لا تبسم لك كلّ يوم ومع ذلك:
1- فقد اعتبر المواطن اللبنانيّ بأنه غير معنيّ بذلك (80% من المواطنين لم يُشاركوا)، أيّ أنه غير معنيّ بإدارة بلده ولو على صعيد البلديّات التي تتعاطى معه مباشرة. وهو غير معنيّ بالفرصة الاستثنائيّة التي سنحت له للقيام باستفتاء في ظلّ ظروف استثنائيّة قياسيّة من الاشمئزاز العام من إدارة البلاد (من النفايات وغيرها...).
2- ومن شارك (20% من المواطنين) فقد قرّر أنه لا يريد التغيير.
بغض النظر عن أعضاء اللائحتين وهم من خيرة الشباب اللبنانيّ، إلا أنّ الحالة والنتائج هم أكبر من الأشخاص، بل أنهم على مستوى الوطن. فالبيارتة، شاؤوا أم أبوا ،هم يمثلون النظام الحالي بكلّ مكوّناته السياسيّة، وبيروت مدينتي إنما تمثل المجتمع المدنيّ والتغيير. ومن جهة ثانية، فإنّ بيروت العاصمة هي، إلى حدّ كبير، بمثابة نموذج عن لبنان برمّته من حيث التعدّديّة التي فيها بشكل خاصّ.


طرح المعضلة
كيف نفهم أنّ الشعب اللبنانيّ:
- بعد أن وصل إلى حالة غير مسبوقة من التقزّز من إدارة البلاد، إذ بات الفساد والإهمال يهدّدان صحّته وحياته اليوميّة والمقوّمات الأساسيّة لاستمراريّة الدّولة؛ وبعد أنّ بلغت الثقة بالسياسيين حدودها الدّنيا،
- طُرح أمامه استفتاء حول هذه الأمور الأساسيّة،
- فلم يُبال، ومن صوّت، فقد صوّت ضدّ التغيير.
لا يتعلق هذا المقال بمحاسبة الطبقة السياسيّة الحاكمة، إنما هو يُحاسب المواطن الذي إذا ما عبّر بكلماته اليوميّة دان الحكومة ولم يبخل بالشتائم والسّباب، ومتى حضر أمام صندوق الانتخاب انفصم وطلق نفسه وتاب إلى الحكومة وصالح الجلاد.


تميّز انتخابات السنة 2016 عن فرص التغيير السّابقة
الفرص السّابقة التي كانت تطرح سابقا للتغيير، لم تكتمل يوما. أمّا هذه الانتخابات فقد جاءت نموذجيّة بكافة عناصرها:
- في السّابق، كان يترشّح منفردون هنا وثمّة، فيدخلون المعركة في خضمّ صراع ما بين جبابرة السياسة، والناس على شحنها الطائفيّ والسياسيّ الوجوديّ، لم تكن لتخاطر بصوتها لمنفرد لن يغيّر شيئا في المعادلة ولو نجح، بل كانت تؤاثر رصّ الصّفوف بمواجهة عدوّ السّياسة من كان يُصوَّر على أنه يهدّد الوجود والبلاد والعباد.
- ومن ثمّ جاءت انتفاضات النفايات والفساد، فتسلل بينها مأجورون لإثارة الشغب وتعميم العنف، فخاف الشعب من اللحاق برُكب التغيير وأطفئ فتيل الانتفاضة.


أمّا في انتخابات السّنة 2016:
- فلا عنف ولا خوف، بل عمليّة انتخابيّة سريّة ديمقراطيّة من داخل النظام،
- والحلّ المطروح من بيروت مدينتي متكامل؛ لائحة تنتخبها، تربح، فتدير العاصمة بمؤازرة المحافظ، ولا خطر بأن تذوب في مجموعة أكبر تلغي صوتها. (كما في انتخاب منفردين في المجلس النيابيّ).
- والشحن الوجوديّ السياسيّ غير موجود مع اجتماع الأحزاب في لائحة البيارتة (فلم تصوّر الانتخابات كمعركة وجوديّة)،
- ولا تشكيك في انتماءات بيروت مدينتي وامتداداتها خارج الحدود.


استفتاء مثالي أجهضه اللبنانيّون بجواب مُدَوٍّ: لا، لسنا مهتمّين! وليُتابَع نهجُ الطبقة الحاكمة.


تحليل لللامبالات اللبنانيّة


مخطئ من يظنّ أنّ مشكلة اللامبالاة اللبنانيّة تتلخّص في شعب "تمسح" واستسلم للذلّ والفساد يستشري في عروق الأمّة. تاريخنا يحفل بالشواهد على بسالة وشهامة تومض فينا أحيانا إذا ما اجتمعنا، وتلمع كالبرق من عيوننا إذا ما غزونا منابر الأمم علمًا وإنسانيّة متى انفردنا. مشكلتنا ليست فينا كأفراد، وهذا لا خلاف عليه، وليست فينا إذا ما التففنا كمجموعات بالمطلق: مشكلتنا تظهر فقط متى تنادينا لنجتمع كأمّة واحدة لبنانيّة.
من البديهيّ أنّ هذه المشكلة الوطنيّة اللبنانيّة عميقة متغلغلة في جذور أرزة الاستقلال: وهي مشكلة الانتماء.


لا لسنا وحدنا شعوبًا مختلفة تنادت للتعايش في ظلّ دولة واحدة. لبناننا مزّقته تعدّديّتنا في حين أنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة مثلاً حوّلت تعدّديّة أبنائها إلى قوّة تحميها راية حلم واحد: الحلم الأمريكيّ. هم تقاطروا من ثقافات ومشارب متباعدة ولكنّ الحلم بالغد الأفضل جفّف المشارب ووحّد الإنتماء.
وهنا يُطرح السؤال المصيريّ: لماذا بقيت كلّ جماعة لبنانيّة على محبّتها الأولى؟ لماذا لم ينفصل المارونيّ عن فرنسا، ولا انفصل السنيّ عن العربيّة السّعوديّة، والشيعيّ عن إيران،... وحدّث ولا حرج.
متى يقتنع اللبنانيّ بلبنان وطنا نهائيًّا لجميع أبنائه؟ متى يرى السنيّ في الشيعيّ قربًا أكثر من السّعوديّ والمارونيّ في السنيّ طمأنينة أكثر من الفرنسيّ والأرثوذكسيّ في الشيعيّ أمانا أكثر من بلاد الروس...؟
لماذا لم يُنر ليلنا الدّامس هذا بصيصُ حلم يسحر القلوب، يشفي جروح الذاكرة، ويشبك الأفئدة نحو غد مشرق؟


وَمَضاتٌ من تاريخنا الحديث


لا يحضرني هذا الحديث إلا وأستعيد صورًا مُشرقة من زمن قريب، يوم فرغت بيوت اللبنانيين من ساكنيها، إذ نزلوا الشوارع يجوبونها والأيادي ترفع علمًا واحدًا فيه أرزة على بياض الجبال وأحمر روته دماء شهداء استقلالنا. تلاقت الأعين في الشوارع، من ملل وطوائف كانت متصارعة بالأمس القريب، ولكن أحدا لم يرى وجها لا يُشبهه. ما رأينا مللا بل كنا لبنانيين وما رأينا إلا لبنانيين في تلك الأزقة والسّاحات على امتدادها.


المفارقة أنّ المناسبة لم تكن سياسيّة!!! بل كان كأس آسيا في كرة السلّة وكان البطل لبنان!


لعلّ الناس تجتمع إلى بعضها متى خَبِرَت نجاح وحدتها.


خلاصة


انتخابات بيروت كانت التجربة المثلى. لن يكون اللبنانيّون يومًا في تباعدٍ أكبر عن حكّامهم، ولن تبسم لهم الفرص يومًا أكثر،  العبرة أنّ الانتخابات ليست المدخل في لبنان، إنما هي النتيجة.
عبثاً بعد اليوم نقارب السّياسة ونحاكي الناخبين.
الورشة يجب أن تبدأ اليوم وليس غدا، ولكن بتوجّهات جديدة.
الورشة هي ورشة بناء الإنسان في لبنان، بناء المواطن منذ أسفل أطراف جذور أرزة الاستقلال.
ورشة الوعي، ورشة بناء خبرات النجاح العابر للأديان فيؤسّس عليها البنيان.
لنبني ثقافة العمل الجماعيّ في الرّياضة، والثقافة، والعلم.... ولنصبو إلى نتائج نرفع بها مجتمعين اسم لبنان في العالم.
لنخلق الحلم اللبنانيّ، ولنعيد الثقة بلبنان جديد ونزرع التزامًا في الواجبات الوطنيّة (التي منها واجب الانتخاب).
لنتعرّف على بعضنا من جديد، لا في السّياسة ولا في الدّين، بل في الثقافة والجمال والإنسانيّة.
ولنعشق جماليّات بعضنا، لا في العقيدة، إنما في الإنسانيّة والثقافة.
فيعود الأمل إلى لبنان.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم