الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

بين عائلة يسوع الرَحبة و"عائليّاتنا" الضيّقة

الشدياق يوسف "رامي" فاضل
بين عائلة يسوع الرَحبة و"عائليّاتنا" الضيّقة
بين عائلة يسوع الرَحبة و"عائليّاتنا" الضيّقة
A+ A-

عرفت المجتمعات القديمة أنماطًا مختلفة من أشكال السلطة، ولكن الشكل الأبرز وبشكلٍ خاص في هذا الشرق كان النمط "البطريركيّ"، وهنا لا أقصد نمطًا دينيًا معينًا، ولا أقصد السلطة الدينيّة أو سلطة الإكليروس. إنما تعبير "النظام البطريركيّ" يعني أنَّ المجتمع قائم على خَليَّة العائلة أوّلًا، ولأب العائلة السلطة المطلقة على أفراد عائلته، له أن يبيع من يشاء من أطفاله أو أن يقتل من يخرج عن طاعته، وله أن يُزوِّج بناته وبَنيهِ لِمَن يريد، وَلهُ أن يَبُتَّ في الصغيرة والكبيرة من شؤون عائلته، وتمتدّ سلطته إلى أولاده المتزوجين وإلى بنيهِم حتى تتوفّاهُ المنيَّة.


وما القبيلة أو العشيرة سوى عائلة كبيرة تفرَّعَت وحافَظَت رغمَ تفرُّعها على أواصر القربى وحَفَظَت السلطة لأكبر شيوخها أي لبطريركها. في هذه المجتمعات كان للولاء العائلي الأسبقيّة والأفضليّة على الإنتماءات الأخرى وكان لذلك ضرورة حياتيّة إذ كانت الحروب وغنائمها من أهمّ موارد العيش، وللإنتصار بالغزوات كان لا بُدّ من تماسك القبيلة لضمان استمراريتها وللحفاظ على حياة أفرادها. ويمكن تلخيص البُعد العلائقيّ في تلك المجتمعات بِالمثل القائل "ناصر أخاكَ ظالما أو مظلوما" و"أنا وخيي عا إبن عَمّي، وأنا وإبن عمّي عالغريب".
وإذا نظرنا إلى العهد القديم في الكتاب المقدَّس لوجدنا أنَّ شعب اسرائيل لا يشُذُّ عن "النمط البطريركي" لا وبل كان هذا الشعب موزَّعًا على 12 عائلة كبيرة دُعيَت بأسباط إسرائيل.
وقد شهد تاريخ هذه الأسباط تعاونًا وثيقًا فيما بينها كما نرى في سفر يشوع بن نون وبشكلٍ خاص في حروب اسرائيل ضدّ شعوب المنطقة، كما وشهدت هذه الأسباط بعض الخلافات فيما بينها كما نرى في الفصل 19 من سفر القضاة حيث اتحدت الأسباط لتأديب سبط بنيامين، وصولًا إلى زمن الملك رحبعام بن سليمان في الفصل 12 من سفر الملوك الأوَّل حيث حدث الإنشقاق الكبير بين سبط يهوذا الذي بقي خاضعًا لسلالة داود في المنطقة التي عُرِفَت بمملكة الجنوب وعاصمتها أورشليم، وبين بقيّة الأسباط التي شكَّلَت ما يُعرَف بمملكة الشمال وعاصمتها السامرة.
وفي زمن يسوع المسيح كان قد وَصَلَ الخلاف بين الجنوب والشمال إلى أَوَجّهِ فكان اليهودي لا يخاطب السامريّ ولا يصافحه لئلا ينتجّس منه، وكان اليهود الذين يسكنون في الجليل –شمال السامرة- يتحاشون المرور بالسامرة في مواسم الحجّ إلى أورشليم ويستعيضون عن الطريق القريبة بطريقٍ طويلة تلتفُ حول السامرة. في هذه البيئة المسمومة بالخلاف "العائليّ" بين الشمال والجنوب نشأ يسوع المسيح وفي حياته على هذه الأرض بَدَل كلّ المعايير التي كانت سائدة في زمانه، فأعاد السلطة البطريركيّة إلى أبيهِ الله الآب. ففي الفصل الرابع من انجيل يوحنّا نراه لا يتوَرَّع عن المرور بالسامرة ولا عن مخاطبة السامريّة عند "بئر يعقوب" حيث حَرَّر الإيمان من البعد المكاني "صَدِّقيني أَيَّتُها المَرأَة تَأتي ساعةٌ فيها تَعبُدونَ الآب لا في هذا الجَبَل ولا في أُورَشَليم" -يو4(21)- لا وبل ينزل في ضيافة السامريين لمدّة يومين حاملًا إليهم بُشراهُ ما جعلهم يؤمنون به فحرَّر الإيمان من حصريّة العائلة اليهوديّة.
وفي الفصل العاشر من إنجيل لوقا في مثل "السامري الصالح" نرى يسوع يُغيِّرُ مفهوم القرابة، فعندما سأله أحد علماء الشريعة "من قريبي؟" لم يتوَرَّع عن الإجابة بمثلٍ يتجلّى فيه عطف السامري ومساعدته لليهوديّ الذي تعرَّضَ للضرب والسلب، في حين أنَّ اليهود الذين مرّوا بابن عائلتهم من كاهنٍ ولاويٍ لم يمدّوا له يد المساعدة، وَبعدَ هذا المثل تَرَكَ يسوع لعالم الشريعة أن يستنتج بأنَّ قريب اليهودي هو السامريّ الذي "عامله بالرحمة".
هذا دون أن ننسى أنّ يسوع تخطّى الواقع العائليّ إلى الواقع الدينيّ الذي تخطّاه أيضًا عندما شفى عبد قائد المئة الوثني وشهد لإيمان القائد قائلًا :(أَقولُ لَكم: لم أَجِدْ مِثلَ هذا الإيمانِ حتَّى في إسرائي) لو-7(1-10)-، كما وشفى إبنة الكنعانيّة -متى15(21-28)-التي تختلف عن شعبه بالدين والعرق والثقافة وشهد أيضًا لإيمانها قائلًا : ( ما أَعظمَ إِيمانَكِ أَيَّتُها المَرأَة، فَلْيَكُنْ لَكِ ما تُريدين)).
ويكمل يسوع ثورته فينسف الولاء العائلي على حساب الولاء له إذ يقول : (مَن كانَ أَبوه أو أُمُّه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي. ومَن كانَ ابنُه أَوِ ابنَتُه أَحَبَّ إِلَيه مِنّي، فلَيسَ أَهْلاً لي) -متى10(37)-، فيؤكّد بهذا الكلام على الخروج من الحيِّزِ الضيِّقِ للقرابة العائلة إلى المجال الرحب لعائلته التي لا تعرف عائلةً أو عرقًا أو حتى لا تعرف دينًا بل تقوم على المحبّة!.
هذا ما يُفتَرَض بأتباع يسوع أن يأخذوه دستورًا لحياتهم وقاعدةً لعلاقاتهم مع بعضهم البعض فيبنون العائلة على قياس المحبّة ويجمعون البشريّة في عائلة واحدة لا حدود بينها. أما في لبنان وعلى ضوء ما يجري من مصالحاتٍ "مسيحيّة-مسيحيّة" ومن لُغةٍ طائفيّة بغيضة، ومن تحضيراتٍ للإنتخابات البلديّة المقبلة فنرى أنَّ أتباع يسوع قد نزعوا السلطة من "الآب" وأعادوها لبطريرك العائلة أو لبطريرك الحزب في أفضل الحالات. وعادوا إلى اعتبار قريبهم هو من يحمل اسم عائلاتهم على بطاقة هويّته أو من يحمل نفس البطاقة الحزبيّة وليس من "يعاملهم بالرحمة". وعادوا بالزمن إلى ما قبل تجسّد معلّمهم فعادت العشائريّة بأبشع صُوَرِها وتفوَّقنا على شعب اسرائيل تعصّبًا للسبط" و"الفخذ" و"الجبّ" واستحضرنا شجَرَ سلالاتنا لنؤكّد على نقاوة دمنا، كما وجلبنا ما نَبَذَتهُ أوروبا من عقائدٍ فاشيّة ونازيّة وعرقيّة مَرَّ عليها الزمن فأعدنا إخراجها بلباسٍ بغيضٍ لا يليقُ بمن لبسوا حلّة العماد المقدَّس وانتسبوا لعائلة المحبّة التي لا تعرف الحدود.


أمام هذا الواقع تصبح الثورة على الواقع ضرورة لئلا يقع الواقع على هاماتنا فيُشوّه شهادتنا للمسيح في هذه البقعة من الأرض، فَلنَعتَبِر من السامريّ الصالح ونعامل بالرحمة كلّ من نلتقيه على دروبنا لتصبح شجرة عائلتنا شجرة كبيرة باسطة الأغصان تأوي إليها طيور السماء، وتلجأ البشريّة إلى ظلالها لتنتعش وتتجدّد بنسمات الروح العابرة بين أوراق أغصانها. وفي استحقاقاتنا لا بدّ لنا من اختيار من يعاملنا بالرحمة ومن يرحم الوطن والعباد من نظرته الضيّقة ومن قصر نظره. ولنتذكّر أن لراعينا يسوع المسيح خرافًا غيرنا في حظائرٍ أخرى، ومنهم من يسبقنا للجلوس على مائدة الملكوت. فَبين عائلة يسوع الرحبة وبين "عائليّاتنا" الضيّقة عسى أن نختار عائلة يسوع، وبين نظامٍ بطريركيّ السلطة فيه لله الآب وبين نظامٍ يُعطي السلطة لكبير العائلة عسى أن نختار بطريركيّة الله لأنّ "الله أكبر" من الجميع!
وعسى أن يحمل عيد الفصح بحسب التقويم الشرقيّ القيامة لمسيحيي الشرق ولإخوتهم من الأديان الأخرى، فينهض الشرق بهم وينفض الغبارَ عن جسده ليلبس لباس المجد في زمن القيامة! آمين

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم