الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

نسرين مَلَك تكتُب عن نخيل بغداد الحليق الرأس

رلى راشد
نسرين مَلَك تكتُب عن نخيل بغداد الحليق الرأس
نسرين مَلَك تكتُب عن نخيل بغداد الحليق الرأس
A+ A-

لا شكّ في ان في كتابات المنافي، أكانت طوعيّة أو قسرية، قاسما مشتركا يرتبط بمناخ النصوص التي تتوسّل، وفي موازاة انفلاشها، بلوغ الموانىء. والحال ان هذا المنوال من التمارين الكتابيّة يطفو فوق ما يشبه المحيط المفتوح على جميع الوجهات، بينما لا يابسة في الأفق.


كثير من هذا المذاق في إصدار "دار الجديد" البيروتية بعنوان "سارق اللافندر" للعراقيّة نسرين مَلَك الذي يقتبس في مطلعه - وعلى نحو ملائم تماما - ما جاء في جداريّة الشاعر الفلسطيني محمود درويش: "أنا الغريب تعبتُ من صِفتي". والحال أن الإحساس بالإنهاك لازمة في السرد المسكوب في قالب اليوميّات والمشتّت بين مطارات العالم ومحطات قطاراته وبين نباته وأزقّته ومتنزّهاته وناسه أيضا. تعزّز هذه البُنية تململاً يقاسيه غرباء بالولادة قدّر لهم أن يروا النور في مكان وزمان معاديين يقحمانهم غصبا عنهم، في ترحّل إلزامي.
يتظهر "سارق اللافندر" في جانب منه، كنص الحنين إلى العراق "التربة المشبعة بالحبّ وبالحروب وبالخصوبة" كما تقاربه مَلَك، بعد مغادرة دامت ثلاثين عاما وإلى أكثر من دولة، وكنص مواجهة يفنّد الوجع المتأتي من اكتشاف تبدّل مسقط عزيز أتلفه الخراب وستره الغبار وتبعثرت في أرجائه الفضلات المحترقة ناهيك بجثث باتت قوتا للكلاب، في وسط حال من عدم الإكتراث العام.
في جانب آخر منه يتموضع النص كتمرين تطهّر يسمح بالإنسلاخ العاطفي الضروري عن وجوه المكان السابق بغية المحافظة على شيء من الإتزان، وأصحاب هؤلاء الوجوه، أصدقاء وأفراد من الأسرة، في الخصوص. ها هنا والدة احتفظت بملابس الإبنة لأعوام مصرّة أن عودتها قريبة لا محال قبل أن يتبدىّ البُعد أكثر جبروتا من الأمنيات، وها هنا أيضا ابنة خال هي الشاعرة نازك الملائكة تستعيدها مَلَك وهي تطلب منها أن تقرأ لها من أحد دواوينها ثم أن تغني لها لفيروز فيدندنان معا "نحنا والقمر جيران"، إلى ناس المطارح العابرة بين رحلتين أو أكثر، في مساحة مطار أو قطار، وهؤلاء ناس اللحظة الراهنة الذين يصيرون، وعلى نحو مباغت، المُعَرِّفين القريبين.
في "سارق اللّافندر" تستحيل شنغهاي وعمان ودبي وبيروت وبغداد وتورنتو وسواها من المدن، فواصل جغرافية في مسار سيدة تركض لتلحق بالزمان، على ما ترصد نفسها، ها نحن في كندا في 2007 فبيروت في 1973 وبغداد في 1955، ثم في تورونتو في 2011 وسواها، في حين لا يلبث الزمن أن ينتظم بعض الشيء، بدءا من 25 كانون الأول 2008، أي عملياً مع الشروع في رحلة العودة إلى بغداد واستكمالاً حتى 20 تموز 2015، مع بلوغ المؤلَّف خواتيمه.
تستنبط النصوص المتلاحقة جملة من عذابات العراقيين وبؤس معيشهم من طريق أبسط التفاصيل، كمثل الإضطرار إلى التوقّف مرات عدة على الحواجز الأميركية وإلى مخاواة الإنفجارات المتنقلة وانقطاع التيار الكهربائي والشحّ بالمياه والرعب من تنظيم "داعش" الذي بلغ، آنذاك، سامراء، إلى مشاهدة مسنّ يكنس الشارع بسعفة نخل "في بلاد تعوم على آبار نفط".
تستعين ملَك بصور آسرة للحديث عن مواطنيها الذين يمشون مع أكفانهم وعن بلادها المُنتهكة التي حرق نخيلها فبات "يشبه نساء حليقات الرأس" وعن عاصمتها المرأة الجميلة التي تتأملها وقد شاخت على نحو قبيح.
"سارق اللافندر" نص امرأة في أزمنتها الثلاثة، طفلة ثم سيدة بالغة ففي سن التقاعد. امرأة في هيئاتها الثلاث أيضا، مواطنة عراقيّة تنكأ ماضيها المُلتهب ومواطنة جنسيتها العالم لا يضارع حزنها على بغداد سوى الشعور بالغربة في وسط ناسها، ومنفيّة طوعية تَعدّ في قائمة سلواتها مقارنة رائحة البحر بين مدينة وأخرى.


[email protected]
Twitter: @Roula_Rached77

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم