الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

فعلوا فعلتهم المشينة تحت الثلج... "تاشع" العكّارية استفاقت على واقعة لم تشهدها منذ 10 سنوات

المصدر: "النهار"
مجد بو مجاهد
مجد بو مجاهد
فعلوا فعلتهم المشينة تحت الثلج... "تاشع" العكّارية استفاقت على واقعة لم تشهدها منذ 10 سنوات
فعلوا فعلتهم المشينة تحت الثلج... "تاشع" العكّارية استفاقت على واقعة لم تشهدها منذ 10 سنوات
A+ A-

هي قريةٌ غدت مملكة صغيرة في أعين قاطنيها. وهي لا تشبه سوى نفسها. كأنّنا حين نتحدّث عنها، نختصر بلاد العجائب الجميلة التي زارتها أليس في ربوع تلك الضيعة البعيدة من صخب المدينة وضجيجها. الصورة هذه المرّة تختلف عن تلك النماذج المعبّرة عن الواقع البيئيّ الحرج الذي تعانيه غالبيّة المناطق في لبنان. لتاشع، الضيعة العكارية الاستثنائيّة، حكايةٌ على شاكلة نموذج يقتدى به. يكفي أن أبناءها لا يتقبّلون خبر "رحيل" شجرة واحدة، بل يحوكون من حدث خسارتهم الحزين لها، حدثاً فرحاً آخر، فيزرعون مئات الأشجار اليافعة تعويضاً منها. حتّى إنّهم يوم سمعوا بنبأ قطع بعض الأشجار في خراج بلدتهم منذ أيّام، لم يتوانوا في ايصال صوتهم الى وسائل الإعلام، وعبّروا عن سخطٍ جماعيٍّ شاجب. لا نبالغ حين نقول أن شجرةً واحدة لم تقطع في تاشع منذ أكثر من عشر سنوات. حتّى إن أهالي البلدة لا يزالون يستذكرون حتّى اليوم، الواقعة الأخيرة التي تعرّض خلالها الحرج الى قطع الأشجار، والتي حصلت في العام 2005. اليوم، وبعد مرور أكثر من 10 سنوات، القرية العكاريّة الخضراء تواجه واقعةً مماثلة، وهي استفاقت مصدومة حين خسرت في وضح النهار 45 شجرة، في غالبيّتها معمّرة، وهي استغربت كيف تمكّن المتسلّلون من اقتحام الغابة ونقل أطنانٍ من الحطب الأخضر تحت الثلج.


القطبة المخفيّة: جرّاراتٌ زراعيّة وناطورٌ متّهمٌ بالتواطؤ
بدأت القصّة حين لاحظ سكّان القرية العكّاريّة المجزرة البيئيّة التي ارتكبت بحقّ ما عمّم أنها 30 شجرة، تبيّن في ما بعد أنها أكثر من 45، قطعت بواسطة "منشار البنزين". يوضح رئيس بلديّة تاشع الأستاذ خالد ياغي، تفاصيل الواقعة التي كشفت تفاصيلها بسهولة: "نفّذت عمليّة القطع في وضح النهار، لكن أحداً لم يتوقّع أن أصوات المناشير مصدرها الحرج، لأننا لم نشهد حالة مماثلة منذ أكثر من 10 سنوات، ولأن سكّان المنطقة الذين يستخدمون الحطب للتدفئة يعمدون غالباً الى استخدام المنشار للتقطيع، لكنّهم يشترونه يابساً من خارج القرية. تقصّينا عن الموضوع، وبعد متابعةٍ حثيثة اكتشفنا أن شخصين اثنين من منطقة مجاورة قاموا بهذا العمل الشنيع، وبعد التحقيق معهم تبيّن أنهم استخدموا الجرّرات الزراعية لنقل الأعمدة بعد تقطيعها، وتمكّنوا من النفاد بفعلتهم تحت الثلج، حيث كانت سماكة الثلوج قد وصلت الى نحو 10 سنتمترات". ويعتبر أن "الناطور متواطئ معهم على رغم أنه نفى هذا الأمر خلال التحقيق معه، لكن من المستحيل أن يستطيعوا الدخول بالجرّارات من دون أن يراهم. أمّا الفاعلون، فقد أعربوا خلال التصريح معهم أنهم سلكوا الطريق الزراعيّة التي يستخدمها أهالي البلدة للوصول الى مصادر رزقهم وأراضيهم، وقالوا إنهم أقدموا على هذه الخطوة بهدف التدفئة". ويضيف أنّهم اختاروا باقة من أشجار السنديان والكوكلان والعزر والعفص التي تتّصف بها البلدة، وخرجوا من دون أن يراهم أحد نظراً لابتعاد المنازل عن الغابة.
ويوثّق ياغي العلاقة بين أهالي البلدة و الثروة الحرجيّة التي يقصدها الآلاف سنويّاً بهدف التمتّع بالمناظر الخلّابة، حيث إن أكبر شجرة سنديان في لبنان موجودة اليوم في تاشع، وهي تحتاج الى أكثر من 3 أشخاص كي يستطيعوا معانقة جذعها الكهل.


مرملة ونرجيلة وماشية
بعيداً من الواقع الجميل الذي تعبّر عنه بلدة تاشع العكّارية الغنية بالأشجار المعمّرة، الّا أن الصورة العامّة لوضع الثروة الحرجيّة في لبنان عامّةً لا تبشّر بالخير. هذا ما أظهرته الإحصاءات الأخيرة التي نقلتها وزارتا الزراعة والبيئة عقب إطلاق الحملة الوطنيّة للوقاية من حرائق الغابات 2015، والتي نظّمتها جمعيّة الثروة الحرجيّة والتنمية بالتعاون مع منظّمة الأغذية والزراعة العالمية "الفاو" وبرنامج الأمم المتّحدة الإنمائي UNDP، أن المساحات الخضراء التي كانت تشكّل 74% من مساحة وطن الأرز باتت اليوم لا تشكّل أكثر من 13% من الأراضي الغابيّة و10% من الأراضي الحرجيّة. وتبيّن الدراسة أن الخسارة السنويّة التي تطاول القطاع الحرجيّ في لبنان تتخطّى الـ 0.4% سنويّاً في ظلّ عدم فاعلية عمليّات التشجير التي لم تحقّق الغاية المنشودة بسبب كثرة الحرائق واستمرار مظاهر القطع العشوائي.


وفي سياقٍ متّصل، يشير الخبير البيئي الأستاذ عاصم شيّا في حديثٍ لـ"النهار"، الى أن "الثروة الحرجيّة في لبنان تتضاءل لعوامل كثيرة أبرزها عدم المتابعة الصحيحة لعمليّات التشجير التي تقوم بها الجمعيّات، إذ إن الشجرة تحتاج الى عناية كي تنمو، في حين أن العديد منها تبيع الأشجار التي تحصل عليها مجّاناً من الوزارات المعنيّة، فتتغنّى بزرعها نسبة لا تتعدّى 20% وتعمد الى المتاجرة بالكميّة المتبقّية في المشاتل، هذا فضلاً عن غياب دور الدولة التي عمدت حتّى الى الغاء عيد الشجرة الذي كان رمزاً سنويّاً مهمّاً".


ويشدّد على أن "الخطر الكبير الذي تتعرّض له الأشجار اليوم سببه تجارة الفحم التي تنشط في لبنان الذي يستهلك نسباً كبيرة منها يوميّاً نظراً لمظاهر عيشه القائمة على النرجيلة والمأكولات المشويّة. ويضيف أنه، وعلى رغم انخفاض أسعار المازوت، الا أنه لا يمكننا الحديث بهذه السرعة عن بوادر ايجابيّة تؤكّد عدم استخدام الحطب للتدفئة، بل الأمر يستغرق سنوات كي تتبلور خيوطه الرئيسيّة، وبما أن أسعار الحطب مرتفعة، فهذا يعني أن العرض عليه كبير. ويتابع أنه يجب أن لا ننسى المشاريع العمرانيّة الجائرة حيث، وعلى سبيل المثال، قطعت نحو 1000 شجرة في محميّة جبيل بسبب شقّ طريق، كما أن خندق الرهبان في منطقة بعبدا مهدد بقطع آلاف الأشجار للغاية نفسها.


ويعتبر أن "لبنان بلد قائم على الزراعة وتربية المواشي، إذ إن الماشية تعتبر ألدّ أعداء الشجرة لأنها بمجرد أن تأكل من رأسها ستموت، في حين أن الرعاة لا يهتمون". أما العامل السلبي الأخير فيكمن بحسب شيا، بالحرائق المفتعلة بهدف إقامة المرامل واستحداث المشاريع السكّانيّة. "انحسرت في الآونة الأخيرة مقولة أن لبنان بات اليوم على طريق التصحّر. أين نحن اليوم من هذه المعادلة؟"، يجيب: "بالطبع نحن في قلب هذه المعادلة نظراً إلى البرودة غير المسبوقة التي يتّسم بها فصل الشتاء والحرارة المرتفعة التي نشهدها خلال فصل الصيف، وهي مؤشّرات على بدء سيطرة المناخ الصحراوي في حين أن الأشجار تساهم في الحفاظ على اعتدال المناخ".


لو أن كلّ قريةٍ لبنانيّة تتمثّل بتاشع، لكنّا اليوم لا زلنا نتغنّى بلبناننا الأخضر. 30 شجرة وحسب، كانت كفيلةً بتشكيل رأيٍ عامٍ شاجب ملأت أصداؤه الأرجاء. لكن في لبنان، وعلى خلاف أبناء البلدة العكّارية، الشريحة الكبرى من الشعب تملك رأياً مغايراً. المهمّ أن النرجيلة تترغل قرقعةً فارغة. والأهم أن النارة تدفئ قلب "المعسّل". كيف لنا أن نتفاءل بالخير ونسير على خطى تاشع، إذا كانت الغالبيّة الساحقة من مواطنينا، وفي حال خيّروا بين جذع الشجرة وضابطٍ لإيقاع النرجيلة، يفضّلون التصويت لصالح... حفنة فحم.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم