الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

سياسة النأي بالنفس اللبنانية تطيح بفيلم عن رهبان متحرّشين

المصدر: "النهار"
سياسة النأي بالنفس اللبنانية تطيح بفيلم عن رهبان متحرّشين
سياسة النأي بالنفس اللبنانية تطيح بفيلم عن رهبان متحرّشين
A+ A-

"سبوتلايت" المرشّح لست جوائز "أوسكار"، لن يُعرض في لبنان وفي أي بلد عربي آخر. السبب مفاجئ ومتوقع: هذا الفيلم عن قضية تحرّش جنسي وبيدوفيلية تُورّط عدداً كبيراً من الرهبان في الولايات المتحدة، كشفتها صحيفة "بوسطن غلوب" إلى الرأي العام في ٢٠٠١ بعد أشهر طويلة من التحقيقات التي تُعتبر نموذجاً يُحتذى به في العمل الصحافي الميداني. الكلّ يعلم ماذا يعني أن تُطرح قضية مثل هذه في بلدان لا تزال سلطة رجال الدين ونفوذهم فيها قوية جداً، وغالباً ببركة شعبية. هذه السلطة تتجاوز أحياناً سلطة أهل السياسة، وأيضاً الإعلام الذي يحاول التغاضي عن الكثير مما يُحكى في المجالس الخاصة عن مرجعيات دينية تعتبر نفسها فوق القانون. عندما يتعلق الأمر بهؤلاء، يتظاهر الإعلام بأنه لم يرَ شيئاً ولم يسمع شيئاً، وبالتالي فلن ينشر شيئاً.


ما يصوّره "سبوتلايت" هو تحديداً هذا: تحالف السياسة والدين والصحافة الذي ينتج صمتاً يستمر سنوات. فالفيلم الذي أخرجه توم ماكارثي يُظهر طوال أكثر من ساعتين التحقيقات التي سيجريها فريق من الصحافيين داخل صحيفة "بوسطن غلوب" (فريق "سبوتلايت")، لمعرفة الحقيقة حول ادّعاءات يتم تداولها منذ سنوات في الكواليس: اعتداءات جنسية على قاصرين محورها رهبان تابعين للكنيسة الكاثوليكية في بوسطن. يستند الفيلم إلى مجموعة مقالات استقصائية نشرتها الجريدة وحازت عنها على جائزة "بوليتزر".



 


يأتي قرار نشر هذه التحقيقات بعد تسلّم رئيس تحرير جديد المسؤولية، فنراه يُعرب عن رغبته في رفع نسبة القراء وكشف حقائق كنسية كانت تصل قبل ذلك إلى إدارة الجريدة ويتم تجاهلها أو طمسها. سببٌ آخر يدفعه الى اتخاذ القرار الصائب: مقال يبيّن أنّ أحد الكرادلة كان على علم بما يجري في كنيسته ولم يتحرك. ويا للمفاجأة، عندما يكتشف الصحافيون الأربعة المتابعون القضية أنّ التحرّش بالأولاد لم يتورط فيه كاهن واحد فحسب، بل العشرات. لا يرتجل "سبوتلايت" أيّ معلومة؛ كلّ شيء مدعوم بتقارير صحافية نُشرت في الجريدة. نتذكر طبعاً فيلماً شهيراً: "كل رجال الرئيس" (١٩٧٦) لألن جاي باكولا عن كيفية كشف الـ"واشنطن بوست" فضيحة واترغايت. معتمداً على سيناريو مبكّل، يصوّر ماكارثي الباحثين عن الحقيقة وهم يقومون بعملهم الشاق، ليتجلى من خلالها نبل المهنة التي اختاروها. لا أكثر ولا أقل من هذا في الفيلم. وخلف هذا كلّه، حرصٌ حقيقيٌ على ردّ الاعتبار الى الضحايا الذين عانوا طويلاً من الصمت والخوف والتجاهل.


من أصل 8 أفلام مرشّحة لـ"أوسكار" أفضل فيلم (ستوزّع الجوائز في الـ٢٨ الجاري)، خمسة سبق أن عُرضت في الصالات التجارية، واثنان ("غرفة" و"بروكلين") قد يجدان طريقاً سالكة وآمنة أمامهما الى الصالات في الأسابيع المقبلة، علماً أنّهما لا يحملان السمات التجارية لبقية الأفلام المرشحة. يبقى "سبوتلايت": هذا الفيلم غير المرحّب به في لبنان، مع أنّ جمهور مهرجان دبي السينمائي شاهده في كانون الأول من العام الماضي.


ليس قليلاً عدد الأفلام التي تتناول الممارسات الشاذة التي حصلت داخل الكنيسة على مرّ التاريخ، ولكن هذا الاهتمام تصاعد في السنوات الأخيرة. أحدها، "شكّ" (٢٠٠٨) لجون باتريك شانلي، من تمثيل ميريل ستريب وفيليب سايمور هوفمان، مرّ في بيروت، ولو متأخراً. بيد أنّ الأضواء لم تكن مسلطة عليه كما على "سبوتلايت". ثم إنّ السرد كان ينطوي على الايحاءات وليس على الكلام المباشر الواضح الصريح للكاهن المتحرّش الذي يضطلع بدوره هوفمان، ما كان يفتح مجالاً واسعاً للشكّ. "النادي" للتشيلياني بابلو لاريان، فيلمٌ آخر عن عدد من الكهنة شاهدناه في برلين العام الماضي. رهبان سابقون استغنت عنهم الكنيسة بعد تسبّبهم بفضائح مختلفة، لكنهم لا يزالون في حمايتها ورعايتها، يعيشون في بيت على شاطئ البحر ويتوقون إلى التوبة. اعترافاتهم ستجعل الفيلم يغوص في المزيد من الفضائح بين التحرّش الجنسي بالأولاد وبيع الأطفال الرضّع بعد انتزاعهم من أمهاتهم. أخيراً، يناقش الفيلم الجديد للمخرجة الفرنسية آن فونتين، "البريئات" (في الصالات الفرنسية قريباً)، معضلة الراهبات اللواتي تعرّضن في زمن الحرب للاغتصاب وحملن من المعتدين عليهن.




حملنا أسئلة عدة، وذهبنا بها الى بسّام عيد، المسؤول في سلسلة صالات "أمبير". سألناه: هل سنشاهد "سبوتلايت" في لبنان؟ يستبق الأمور ويجيب: "في رأيي، لن يمرّ على الرقابة، لهذا السبب ألغيناه. ثم إنّ الشركة المنتجة فضّلت عدم عرض الفيلم في الشرق الأوسط"، ويتساءل، مبرراً قرار الاستبعاد: "كم سيكون عدد الجمهور الذي سيرتاد الصالات لمشاهدته؟ سيكلّف الترويج الإعلاني له أضعاف ما يفوق الأرباح". قد يدرك عيد أنّ الدعاية وتكاليفها ليسا السببين الحقيقيين وراء عدم دخول الفيلم الى لبنان. يغمز من قناة "الفتنة"، في اعتبار أنّ أفلاماً كهذه سهلة التصنيف كـ"مستفزّة دينياً"، فيقول: "لا أجد خبزاً لهكذا فيلم في لبنان. لن يستهوي الجماهير. إنه من النوعية التي تُتعب الرأس. لن ترضى به الرقابة ولا الكنيسة. من الأفضل الاستغناء عنه للحؤول دون جدلٍ قد يُثار. ليست هذه وظيفة #السينما. "بدي ريّح راسي". ثم إنّ تكلفة هكذا فيلم، أيّ ترجمته والترويج له، باهظة. والمداخيل المتوقّعة لا تغطي مصاريفه، فمن الأفضل الاستغناء عنه، ولا شأن لذلك بأحكام القيمة على الفيلم. نحن في النهاية نحبّ السينما ونسعى إلى انتشارها في شكل أفضل".


مسؤول إعلامي من داخل الكنيسة الكاثوليكية يفضّل التمهّل لمشاهدة الفيلم قبل الحكم عليه. نخبره أنه لن يعرض، ثم نشرح له شيئاً من الحبكة، فيكوّن موقفه: "إن كان طرح الإشكالية علمياً وفي شكل موضوعي وحقيقي، فليكن. أما إذا كان القصد التشويه، فلن نرضى. لا بدّ من المشاهدة. الجميع يعلم أنّ للبابا فرنسيس مواقف من الكهنة المتحرّشين بالأولاد، وقد دعا إلى عقابهم بطردهم من الكنيسة، فإن لامس الفيلم الوقائع هذه، وقصَّ ما يحدث بإنصاف، فلِمَ قد نعترض؟ وإن أتى ليقول إنّ الكهنة جميهم يتحرّشون بالأولاد، وهذه سمات الكنيسة، وراح يتهجّم، فعندها سنسجّل موقفاً. نحن لسنا الجهة التي تقرّر منع الأفلام. للأمن العام معايير وهو أدرى بما يفعل. لسنا منغلقين تجاه أحد، لكن إن وجدت لجنة الرقابة أنه لن يمرّ، فسنسلّم بذلك ولن ندّعي أننا ملكيون أكثر من الملك".


في الغرب، لم يواجه الفيلم أي اعتراض يذكر. مخرجه توم ماكارثي نفسه يتحدّر من عائلة كاثوليكية، وكان هدفه منذ البداية التركيز على سلطة الميديا وطريقة إجراء التحقيقيات الرصينة. في كلٍّ من مهرجان البندقية وتورونتو، صفّق الجمهور طويلاً للفيلم. ضحك الناس عندما قرأوا في جنريك النهاية أنّه تم ترقية الكاردينال برنارد لو بعد حدوث الفضيحة. حتى بعض الكرادلة، من أمثال شون أومالي، قال إنّ التحقيق الشهير هذا ساعد الكنيسة في التعامل مع أمر كان مشيناً ومخبئاً داخلها. إذاعة الفاتيكان اعتبرت الفيلم نزيهاً، وقالت إنّ القصة التي رواها كانت خلف قبول الكنيسة للخطأ المرتكب في عقر دارها والاعتراف به علناً، ودفع الضريبة المتوجبة عليها. في مطلع هذا الاسبوع، تم تنظيم عرض خاص للجنة كنسية مكلفة التحقيق في قضايا البيدوفيلية. إلا أنّ تناول هذه المسألة لا يزال محرّماً عربياً، ويُنظر إليها في اعتبارها ترفاً فكرياً أو محاولة للنيل من الإيمان. ولكن، إلى متى الصمت والتجاهل والنكران والنأي بالنفس؟


[[video source=youtube id=56jw6tasomc]]


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم