الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

رباعيات

سمير عطاالله
رباعيات
رباعيات
A+ A-

"لقد تجاوزت الولايات المتحدة حدودها الوطنية بكل الطرق، فمن يرضى بذلك؟


من يقبل ذلك؟ أين هو المنطق والضمير؟


لا هذا ولا ذاك".  فلاديمير بوتين


العرض مستمر: في يوم ميلاده الثالث والستين خاض فلاديمير فلاديميروفيتش مباراة في "الهوكي" على رأس المنتخب الاتحادي. لا نقص في الجانب البدني من اللياقة. ربَّاع وسوبرمان كالعادة. وفي ذلك اليوم المجيد نفسه، كان قد مرّ أسبوع على العرض الجوي في سماء سوريا، فقرّر أن يبدأ العرض البحري. ليس من طرطوس القريبة، بل من بحر قزوين على مسافة 1500 كيلومتر: تلازُم البرَّين والبحرين، والسماء السابعة.
في المناسبتين، حضر المصوِّرون أولاً: فاس وبروفيل، و Wide Angle. وكان وزير الدفاع الهندي كريشنا مينون يهوى الإعلام الى درجة ان محمد حسنين هيكل اتهمه بثقَل الدم لكثرة لجاجته. وذات مرة، أُغمي عليه في رَواق الأمم المتحدة من اكتظاظه بنفسه، فهرَع الأطباء والمُسعفون، وحين أفاق مُتعباً، تلفّت حوله وفرَك عينيه وقال: هل مراسل "التايم" هنا؟
جميع المصوّرين كانوا في بحر قزوين. هتلر كان يستعدّ لخطبة بحضور المصوّر السينمائي للرايش، وليندون جونسون منَع المصوّرين من التقاط صوره بروفيل لأن ذلك كان يفضح نقوصه أمام وسامة رئيسه جون كينيدي. الصورة جزء مهمّ من الرسالة. لذلك كان جورج بوش الأب، التكساسي هو أيضاً، يردّد بابتذال Read my Lips افهموني جيداً!
من الصعب أن تفهم بوتين تماماً. يترك لك رجل المخابرات على الدوام، شيئاً للتحزُّر. قال الأخطل الصغير: يشرب الكأس ذو الحجى / ويُخلي لغد في قرارة الكاس شيّا. والرجل بوتين ليس ربّاعاً فحسب، بل من ذوي الحجى أيضاً. أهانه الغرب بفرض العقوبات عليه في أوكرانيا، فاستهان به جمعاً في سوريا: صواريخ من بحر قزوين، ممر الغاز والنفط والممر المائي نحو رأس الرجاء الصالح في سوريا!
أوروبا في خطر، يستغيث فرنسوا هولاند. الحقيقة، أن العالم برمّته في خطر. ليس لأن بشار الأسد يقول ذلك ابتهاجاً بوصول فرقة الإنقاذ الروسية، بل لأن سذّج الاستراتيجيات يكتشفون متأخّرين نصف قرن، قول ديغول إن حوض المتوسط، في نهاية المطاف، هو حوض عربي أيضاً. بمعنى أنه عُرضة للقلاقل والمفاجآت واضطراب الديكتاتوريات، وخروج قوافل الجائعين والهاربين. ولم يكن يتنبّأ، بل ربما كان يقرأ في نبوءات ليوناردو دافنشي قبل قرون، الذي قال سوف يجتاح الذين لا يملكون الذين يملكون. وهو تعبير صاغه في ما بعد مزوِّق الصياغات، أرنست همنغواي:
The have and have nots.
في كل صراع هناك حلقة من النزاع الطبقي. الهاربون من هنا لا يملكون ليس فقط الرداء والدواء والغذاء، بل لا يملكون الحرية والكرامة والأمان والعلم والمستقبل. أي لا يملكون شيئاً إلا وعدين: الأول سياسي، ويجب أن تهتف له كل يوم "بالروح بالدم"، والثاني روحي، وهو سيوزّع عليك أنعام الجنة إذا ما سلّفته هنا، الروح والدم أيضاً. وللوعدَين قاموس خاص من المصطلحات والتعابير يسخر منها البعض بأنها لغة خشبية. الواقع أن الخشب يلين أحياناً.
يُعيد بوتين إلى الشرق العربي لغة رفاقه السوفيات. قلنا، الشرق العربي، لأن الرجل بوتين وعَد بنيامين نتنياهو وضبّاطه بلقاح الحياد. ليس في الزيارة الأخيرة، بل حينما زار هو إسرائيل مرّتين في عشر سنين، كانت الثانية فيها لتدشين نصب المحاربين اليهود في "الجيش الأحمر". التاريخ حلقات متصلة إذن، كما مع سوريا كما مع إسرائيل. ومَن يقرأ جدول رحلات بوتين الخمسين، يلحظ خطاً سوفياتياً لم يعدَّل ولم يتغيَّر كثيراً: من عشق أباد في تركمانستان إلى بيونغ يانغ في كوريا الشمالية، أولى رحلاته إلى الخارج، رئيساً مدى الحياة، أو إلى الأبد، إلى بلاد الزعيم الأبدي.
كما تُصاغ الأناشيد للزعيم المبجَّل في كوريا، صدرت في يوم ميلاد بوتين أغنية راب عنوانها "صديقي الأحبّ الرئيس بوتين". وأقيم في الكرملين معرض عنوانه، ليس "عالم"، بل "كون روتين". وفيه صورة تمثّله هرقل، محتملاً عقوبات الغرب مثل بطل اليونان! لا شك في مدى الشعبية التي يتلذّذ بها قاهر أميركا، 80% من الروس لكن 39% فقط يؤيّدون الرحلة إلى سوريا. وبعضهم يعتقد أن أوباما دفعه إلى محرقة أخرى.
فهو الذي قال للصحافيين أوائل آب الماضي إن التوصل إلى تسوية في سوريا ممكن بسبب دور روسيا وإيران. لكنه لم يكن يتوقّع أن يتحوّل الدور الروسي إلى "عرّاضة"، من حمص إلى حلب ومن قزوين إلى بغداد. لقد قلَب الموقف الروسي السياسي في مجلس الأمن الساحة الديبلوماسية، والآن يقلب الدور العسكري الحلبة.
وفي كل ذلك يريد الرجل بوتين القول للمتراجع أوباما، إن موسكو لا تتخلّى مثله عن حلفائها. ففيما كان أوباما يستكمل التفاوض مع إيران، متجاهلاً، في العمق، مخاوف حلفائه العرب، كان رئيس روسيا يتجاوز جميع المحاذير للوقوف مع حليفه السوري، الذي أعلن بنفسه حجم الخسائر التي مُني بها، وحال الجيش المتعب. كما استقبل بوتين الرئيس المصري أربع مرات ليقول له إن روسيا في حلف معه ضد الإسلاميين. بل كان أول زعيم دولي يذهب لزيارة السيسي دعماً له في وجه "الإخوان" المعترضين على وصوله وإزاحة محمد مرسي.
"حلف مقدس" من الجمهورية الإسلامية والبطريركية الموسكوبية وسوريا "العلمانية" والعراق المشكّل من مربّعات سنّية وشيعية و 3,5 ملايين مشرّد في الداخل، وديار "داعش"، وحروب الأنبار. بابل تتمدّد على مدن الأمة وتمتدّ إلى أوروبا. وأوروبا بين خائف مرتعد من عبور "داعش"، ومَن يغطّي خوفه ومخاوفه بالمزيد من الجمعيات.
هكذا يُقرأ قرار لجنة نوبل السلام بمنح الجائزة هذه السنة لأبطال الحوار الداخلي في تونس. البعض رشّح الفراو ميركل، والبعض قال جون كيري ومحمد جواد ظريف، على طريقة كيسينجر وليتوك ثو، والسادات وبيغن، وعرفات ورابين. لكن ثمة ما هو أهم: تشجيع الدول العربية ومكوّناتها. بدأ الربيع العربي في تونس، التي عرفت أيضاً كيف لا تحوّله إلى سوريا أخرى، أو ليبيا أخرى، أو مصر أخرى، حيث يقبع إثنان من رؤساء أكبر دولة عربية في السجن.
لا بد من ثقافة أخرى غير السجون والمنافي والأقبية وطرد الآخر، ثم هدم بيته وإحراق حقوله وترميد جذوره ومحو ذاكرته ودفعه إلى أعالي البحار.
لا يشغل أوروبا ما تستطيع أن تستوعب وأن تصهر من الهاربين، بل مَن تستطيع إقناعهم بالبقاء في بيوتهم وأرضهم في ظلّ أنظمة تتمتّع بالحدّ الأدنى من حكم القانون والعدالة واحتمالات المساواة والفرص. أنظمة غير منقوعة بالفساد والنهب والقهر، أو معارَضات فكرها الفؤوس والسواطير والسبي والاغتصاب. الشعوب تستحق أن تعثر على بداهة الحياة في أوطانها بدل ألاّ تعثر إلاّ على حضارات الموت والإلغاء والهمجيات. الشعوب تبحث عن رجال يُنجزون وليس يُعطّلون. حان وقت أن يعثر العربي على حاضره ومستقبله في أرضه، لا في أراضي سواه. كائن يُولد بلا ديار ولا يُوعد إلا بالهجرة والجحيم، ولشدّة ما مستقبله مُهين مُشين يهرب دائماً إلى رماد الماضي. قال عبد الحميد الأحدب في وصف التخلّف "إن الأبناء لا يُولِّدون سوى الآباء".
وصل الربّاع بوتين متأخراً جداً إلى سوريا، سواء من طريق بحر قزوين أو من طريق البحر الأسود. هناك أشياء أخرى تستطيع الدول الصديقة تقديمها غير "السوخوي" التي تذكَّرها متظاهرو بعبدا في 11 تشرين، الحليف الآخر في رَكْب الحرب المقدسة.
كان في إمكان بوتين أن يقدّم للنظام السوري مبكراً النصيحة باستيعاب شعبه وأهله. القليل من الحرية والقليل من التواضع والقليل من الوجوه غير الأسطوانية في مجلس الشعب. وأن يكون الحزب هو الحاكم، ولكن ليس هو الله. وأن يكون للمعارضين مكان خارج السجون. كان يمكن لبوتين أن ينصح بشيء من خبرة الكرملين في تقبّل وقائع التطوّر وحقائق الحياة، بحيث يخسر النظام شيئاً من مُطلقيَّته من أجل أن يحتفظ بالكثير من بلده وشعبه. لكن بوتين وصَل بـ"السوخوي" وصواريخ قزوين بعدما خرجت سوريا من نقطة العودة إلى سوريا. "السوخوي" مثل "الفانتوم"، تقصف الناس من غير أن تسمع ما يقولون. وتُصيب الإرهاب لكنها تصيب أيضاً ضحاياه. وتُثبت قوّتها الطاحنة لكنها تكتشف غداً أن الضعفاء ينتصرون.
لم يتقدّم أحد إلى سوريا بالحلّ الآخر، الحلّ الوسط. الحلّ الذي أُعطي التونسيون من أجله نوبل السلام التي تُمنح منذ بداية القرن الماضي لمن يعرض على البشر شيئاً غير الموت والقتل والسجون والمجاعات والاغتصاب والسَبي. مَن يعرض عليهم المصالحة والبقاء في بيوتهم، بدل الخيام والأوحال والقرّ المؤدّي إلى باقي أنواع فقدان الكرامة البشرية.
هنيئاً للرجل بوتين بالأغنية والهوكي والرحلة الشراعية فوق نهر الموسكوفا. وهنيئاً بالصواريخ العابرة فوق إيران والعراق قبل الوصول إلى سوريا. لكن كل ذلك لا يعيد إلاّ القليل من سوريا. ليس إلى السوريين، بل إلى الحلف الرباعي الذي يبحث عن النصر، لا عن الفوز. أي فوز في بلد خسر نصف سقوفه. وما بقي منها ليس تحته أحد.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم