الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

تحت الضوء - ثورة الجميلات: الأزياء والأناقة كمدخل لفهم الذكورية العربية في الأدب [1 من 2]

إبرهيم فرغلي
تحت الضوء - ثورة الجميلات: الأزياء والأناقة كمدخل لفهم الذكورية العربية في الأدب [1 من 2]
تحت الضوء - ثورة الجميلات: الأزياء والأناقة كمدخل لفهم الذكورية العربية في الأدب [1 من 2]
A+ A-

لم يعد فضاء التواصل الاجتماعي العربي قادرا على ترك شاردة أو واردة، من السياسة والأوضاع الاجتماعية إلى الأدب والفن وسواها من دون تعليق، أو غمز ولمز. فحينما بدأت تظاهرات لبنان الأخيرة تحت شعار "طلعت ريحتكم"، وبعيدا من الموقف الشعبي المصري منها، بدا لافتا قيام بعض المغردين ومستخدمي صفحات الـ"فايسبوك" المصريين؛ كعادتهم، بتناول موضوع تظاهرات لبنان بطريقة ساخرة، عقب انتشار صور النساء اللبنانيات المتظاهرات التي تناقلتها وسائل الإعلام أو وسائل التواصل، واللائي يظهرن فيها بكامل أناقتهن، بأزياء عصرية شابة وملونة.


يبدو أن هذه الصورة، على رغم أنها ليست استثناء تاماً، لو استدعينا إلى الذاكرة صورة تظاهرات الشارع التونسي، بل وحتى بعض صور المتظاهرات المصريات في أول أيام الثورة المصرية، دفعت المصريين إلى بعض التعليقات التي افترضت سؤالا موضوعه: ماذا لو نزحت اللبنانيات من لبنان إلى مصر بسبب الوضع الأمني؟ وسرعان ما انتشرت، عبر "تويتر" وغيره، التعليقات المرحبة بهن والساخرة منهن.
أغضبت هذه التعليقات السيدات في لبنان، ومعهن الحق كله. وأثيرت على هامش المناوشات انتقادات للشارع المصري بالذكورية الفجة، وقامت بعض الناشطات اللبنانيات، وبينهن عصمت فاعور وتمارا اسماعيل؛ بتذكير المصريين بوقائع التحرش التي جرت في ميادين الثورة والحرية في القاهرة، تأكيدا منهما أن الثورة اللبنانية تجري على أرض يمكن فيها لسيداتها وفتياتها أن يمشين بكامل حرياتهن، من دون أن يخشين متحرشاً أو مغتصباً، وهذا ما يحسب أيضا للرجل اللبناني وللثقافة السائدة في المجتمع اللبناني إجمالا.
بشكل شخصي، تبدو لي هذه الظاهرة استطراداً للتمدد السلبي لظواهر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي اليوم في مصر، في كل شاردة وواردة حول الشأن المحلي، أو حول بعض الشؤون الخارجية، بتوسل الطرفة والاستخفاف؛ باعتبارهما شكلين من أشكال معارضة السلطة القائمة، أو نقد الممارسات الحكومية، امتدت لتناول ظواهر عدة في المجتمع المصري.
أذكر وقد كتبت هذا، على صفحات "النهار"، أنني أدركت مذ تعرض علياء المهدي للطرد من الميدان على يد الثوار في مصر خلال فترة الحراك السياسي، وهي الشابة المصرية التي اختارت أن تعبّر عن فكرتها عن الثورة بتعرية جسدها ونشر صورها على الإنترنت، أن جانبا ذكوريا طاغيا لا يزال يهيمن على رؤية الأمور في المجتمع المصري.
كان رفض وجود علياء المهدي في ميدان الثورة السياسية، لمجرد أنها قامت بثورتها الخاصة باستخدام جسدها وتعريته على الإنترنت، كاشفاً لأزمة عميقة في فهم مسألة الثورة، لأنني ممن يؤمنون بأن الثورة الجنسية جزء مهم وأساسي من تحقيق فكرة أي ثورة. ورأيت، ولا يزال هذا تقديري، أن ما فعله الثوار في ذلك الموقف لا يقل ذكورية في أي حال عن الموقف الذي اعترضوا عليه جميعا؛ والخاص بكشوف العذرية التي أجراها المجلس العسكري على بعض الناشطات في آذار 2011.
لا شك أيضا في أن تعليقات المصريين على "ثورة الجميلات"، كما سمّت بعض وسائل الإعلام تظاهرات لبنان، كشفت مدى تغلغل الذكورية في قطاع واسع من فئات المجتمع المصري، بل ولدى الكثير من المحسوبين على التيار الثوري.
ثمة جانب آخر، إضافة إلى الذكورية، قد يزاد لتعليل أو محاولة فهم الظاهرة، يتمثل في أن بعض تلك التعليقات كانت، بوعي أو بلا وعي، تستهين بالتظاهرات الغاضبة في بيروت، بسبب حال الإحباط العام التي انتابت الشارع الثوري المصري، عقب تحرك المسار السياسي في اتجاه جاء مخيبا لأحلام أغلب الثوار، من دون أن يتبين الكثير منهم مدى الأخطاء الكارثية التي ارتكبوها خلال فترة الحراك، ومدى افتقارهم الفاضح للقدرة على التخطيط أو إدارة العمل الثوري في الشارع، وعدم القدرة على اكتساب ظهير شعبي يبنون عليه كيانات ثورية حقيقية ومؤثرة، للسير قدما في طريق طويلة كان المفترض أن يدركوا مدى امتدادها وطولها لمواجهة الفساد وتأثير السلطة القديمة في المجتمع، ما أدى إلى أن يعكسوا هذا الإحباط في أشكال من النقد السلبي الذي اتخذ منهج السباب أو السخرية من المجتمع والسلطة على حد سواء، وها هو الآن يمتد إلى ظاهرة ثورية جديدة في الشارع العربي، في بيروت.
بعيدا من هذا البعد السياسي، فإن ما يمكن أن نلتفت إليه هنا، وعبر عديد الشواهد، أن المجتمع المصري، وربما فئات يمثلها قطاع واسع من المنطقة العربية في طبيعة الحال، يعاني إشكالية في الذهنية العامة تتعلق بتقبل جسد المرأة كفرد حر، وهو ما تجلى في مصر خصوصا عبر وقائع متكررة ومتعددة ومتعاقبة ومأسوية، انتهكت فيها أعراض فتيات أو سيدات، بأشكال اتخذت طابعا هستيريا ومريضا في غير مرة. في النهاية أدى إلى التزام الكثير من السيدات في مصر ارتداء أزياء تنحو للمحافظة والتقليدية تجنبا لسخافات الكثير من الممارسات الذكورية الشائنة.
لا شك لديَّ في أن الإعلام المصري، المهتم باستضافة النماذج الفضائحية من السياسيين والفنانين والشعبويين على حساب النماذج المضيئة من أصحاب القيمة والقيم، يتحمل جانبا كبيرا من مسؤولية شيوع مثل هذه المفاهيم المختلة، بالإضافة إلى غياب برامج الثقافة الحرة التي يمكنها أن تناقش مفاهيم التحرر والمدنية، مقابل شيوع برامج تغييب العقل، وبرامج حوارية مستلهمة من "صراع الديوك" حول شؤون تافهة وسخيفة، وظهور رموز إعلاميين لا يليق بهم أصلا الظهور على الشاشات. كل هذا له دور كبير في الانفلات الذي يتحرك في الشارع وعلى وسائط التواصل الاجتماعي بالتوازي.
لكن، ماذا عن الأدب؟ كيف التفت الأدب العربي إلى هذه الظواهر في النصوص العربية؟ وهل ثمة علاقة بين الانفلات الأخلاقي في الشارع بالانفلات الفكري على شاشات الكومبيوتر وبين الطابع العام للأزياء وأناقة المجتمع؟ ثم كيف رصد الأدب العربي مثل هذه التفاصيل مثلا؟ وهل انتبهت الكاتبات العربيات إلى مثل هذه التفاصيل في كتابتهن؟ كيف يمكن قراءة أناقة الكاتبات العربيات وكيف تعبّر عن أفكارهن ودورهن الاجتماعي وعلاقتهن الخاصة بالسلطة الاجتماعية في المجتمع، وبفكرتهن العامة عن الجسد؟
قبل الإجابة أود بداية الابتعاد قليلا لتأمل فيلم "الساعات" المأخوذ عن رواية الكاتب مايكل كاننغهام، من إخراج ستيفان دالدري. استغرقت في تأمل فيرجينيا وولف كما جسدت دورها الممثلة البارعة نيكول كيدمان. وجدت نفسي مأخوذا بتلك المشاهد التي أظهرت وولف وهي تصارع الأفكار وتحتشد من أجل الكتابة. التوتر الرهيب وتلك النظرة الشاردة عن الواقع،لانشغال عين الخيال بتتبع الأفكار واللقطات التي يولدها الخيال في أثناء التفكير في كتابة "السيدة دالواي".
كانت وولف ترتدي، في أثناء الكتابة، رداء طويلا أشبه بفستان بيتيّ ذي كمّين، يتزركش نسيجه القطني بزهيرات صغيرة متعانقة ومتجاورة ومتماثلة، وهو زيّ بيتي مريح لكاتبة تعيش في الريف الانكليزي. يكفي امرأة - كاتبة؛ تعاني من الاكتئاب واعتلال المزاج والإحساس القاتل بلاجدوى الحياة التي تعيشها.
أما جوليان مور في أدائها دور لورا براون، وهي أميركية لديها طفل وحامل بالطفل الثاني، تعاني من متاعب نفسية وأعراض اكتئابية وعصابية، لإحساسها بعدم السعادة في زواجها، تدفعها إلى التفكير في الانتحار، بينما تتمزق بين الرغبة في الموت وخوفها على ابنها ومصيره. لكنها رغم عصابيتها واكتئابها، فإن لونا من الأناقة يميز الأزياء المتنوعة الألوان التي ترتديها عادة، وتجسد العصر الذي تعيشه في كاليفورنيا في الخمسينات. بينما كلاريسا فوغان (ميريل ستريب)، وهي أميركية في الخمسينات من عمرها، تعيش في نيويورك، في بداية الألفية، وتحاول عمل حفلة لريتشارد، صديق عمرها الشاعر المصاب بالإيدز، فغالبا ما تظهر متدثرة بمعطفها أو متوشحة بالصوف، وإذا خلعت معطفها، نجدها ترتدي كنزة صوفية خفيفة بلون السماء، بسيطة التصميم، تظهر تحتها بلوزة قطنية عالية الرقبة، أما ساقاها فتختفيان في بنطلون جينز واسع مناسب لعمرها.
في فيلم آيريس، من إخراج ريتشارد إيار، المأخوذ عن السيرة التي كتبها جون بايلي حول سيرة الكاتبة البريطانية آيريس ميردوخ، ينقسم الفيلم فترتين أساسيتين في حياة ميردوخ؛ الأولى مرحلة الشباب وجسدتها كيت وينسلت، بينما جسدت جودي لينش مرحلة الشيخوخة.
يعرض الفيلم الأزياء التي كانت تحرص على ارتدائها في مرحلة شبابها، وفيها لمسة من العصرية، والتحرر؛ مثل جاكيت حمراء صارخة على بلوزة بيضاء وبنطلون جينز، أو فستان أحمر عصري في حفل راقص، وهو ما يتلاءم مع حياتها كشابة، مقبلة على المرح والمغامرة والحب والعلاقات الحسية الطبيعية والمثلية. لكنها في مرحلة لاحقة؛ أعقبت تحققها ككاتبة، بدت حريصة على ارتداء أزياء أنيقة لكن بألوان لا تلفت الانتباه. في رصدي للمقابلات التلفزيونية التي أجريت معها، وهذه مقابلات لا علاقة لها بالفيلم، غالبا ما كانت ترتدي معطفا خفيفا أسود اللون يخبئ قميصا أزرق مشجراً أو أيا ما كان لون القميص فهي تفضل أن تتخفى باللون الأسود. اللون الذي يمنح الإحساس برغبة الكاتب في التخفي عن المظاهر لصالح إبراز شخصيته وأفكاره.
تعرضت لهذين الفيلمين في معرض الاهتمام بتتبع أزياء الكاتبات في العصور المختلفة، بحثا عن إجابات عن الأسئلة التي طرحتها قبل قليل عن الأزياء في الكتابة ومدلولها في علاقتها بالجسد والحرية والسلطة، إضافة لما قد تعكسه هذه الأزياء من انتماء طبقي، أو ما تشير إليه من دلالات حول كون الكاتبة متمردة أم تقليدية في ما يخص ما ترتديه، ثم انعكاس ذلك على كتابتها، على الشخصيات التي تتناولها في أعمالها.
مع ذلك، فهذان المثالان المستلهمان من الغرب والسينما الغربية فقط لتوضيح فكرتي، وليس لبحث امتداد هذه الظاهرة هناك، لذا سأنتقل من هنا مباشرة إلى الجانب العربي، عبر رصد بعض صور الكاتبات العربيات وما تعكسه الأزياء التي يبدين فيها في صورهن المختلفة، في وسائل الإعلام أو على الوسائط الاجتماعية، ثم الكيفية التي تناولت بها الكاتبات العربيات موضوع الجسد ومدى التركيز أو العناية والانتباه لتفصيلات الأزياء التي ترتديها شخصيات الكتابة، كجزء من موضوع الأسئلة المطروحة، وهو موضوع الحلقة المقبلة من هذا الموضوع.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم