الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

شاحنة الشؤم: لقطة داخلية للوجوه والأوكسيجين والـ DNA

إبرهيم اليوسف
شاحنة الشؤم: لقطة داخلية للوجوه والأوكسيجين والـ DNA
شاحنة الشؤم: لقطة داخلية للوجوه والأوكسيجين والـ DNA
A+ A-

إلى حسين ورامان وركّاب رحلة الكربون


ثمة قشعريرة استثنائية سرت في بدني وأنا أتابع نبأ شاحنة الشؤم التي عثر عليها البوليس النمسوي، يوم الأربعاء الأخير من آب الماضي، مركونة على جانب إحدى الطرق الدولية شرق البلاد. ضمن سلّم الأولويات في حياتي، لا أفلح في التفكير أبعد مما بات يجري من تفاصيل سورية يومية، تغرق ذاكراتنا، بالدم، ورائحة الموت، بأشكاله التي عرفها السوريون براً، وجواً وبحراً. أتابع ما نشر عن تلك الشاحنة، وأحوال الواحد والسبعين طالب لجوء في داخلها، بعد تسريب صورتها وعليها علامتها الفارقة: "الدجاجة". صورة يتيمة، لظهور ورؤوس آدميين موزعين، بلا ملامح، وفق هندسة باتت لغزاً. صدمت صورة تلك الشاحنة الرأي العام العالمي، محركةً بعض الضمائر النائمة، قبل أن يأتي الطفل آلان عبدالله شنو ويوصل دورة الكهرباء، على نطاق أوسع، وهو "يردد النفير على آخره". لم أكن أعلم، حتى تلك اللحظة أن نجلَي صديقي الكاتب والفنان التشكيلي خليل مصطفى في عداد من شدّوا الرِّحال، ليسافرا صوب أوروبا، على أمل اللجوء في ألمانيا تحديداً لإكمال دراستيهما، ولا سيما أن ابنه البكر حسين الذي أتذكر مرحلة ولادته كما أخوته وأخواته الآخرين، أحد المتفوقين في دراستهم في عالم الآثار، وقد دفع به الطموح ليتابع دراسة الدبلوم، لتكون بوّابته إلى الماجستير والدكتوراه، كي يغدو باحثاً آثارياً، في هذا الزمن الرديء الذي تمحى فيه آثار بلده، بل تُسرَق، وتُسجَّل بأسماء الأغيار، في ظل سرقة تاريخ، وجغرافيا، موصوفين، على أيدي قراصنة أمميين أو إقليميين، طارئين، أو بهلوانات مرتزقة محليين. صورة حسين، كما أكثر أخوته وهم أطفال، لا تزال ماثلة في عيني. أتذكرهم واحداً واحداً وهم يتدرجون على دروب الحياة. فأنا أحد المقرّبين منهم، بل أحد عمومتهم، وقد انتظمت علاقتي ببعضهم عبر المدرسة، كما توثقت علاقاتهم بأبنائي في مرحلة الجامعة، لأعرف الكثير عن شؤونهم اليومية، يؤمّن لهم أبوهم براتبه الضئيل كل ما يحتاجون إليه، من دون أن يتأفف، أو يتذمر، تعينه تلك المرأة الجبارة، المدبرة، الأصيلة، أم حسين، ليغدو أبناؤه وبناته أمثلة في حسن الخلق، والنبل، والشهامة.
أبو حسين صديقي، أكاد أعتبرني أحد أكثر من يفهمون سيكولوجيته، ما دام عمر العلاقة بيننا يبلغ أربعة عقود تماماً، إذ دأبنا على أن يحترم أحدنا خصوصيات الآخر في ما سلف من زمن، ولا سيما عندما اخترت خطاً فكرياً، ليكون له خطه المختلف. أنا خير من يعرف أبا حسين، فدعوه! أقولها، وأنا أستذكر ما بيننا من إرث مديد، أرى ضرورة صونه، بكل ما لديَّ، وإن عبر التصامم عما يتم من جراء بعاد المسافات، أو جفوات الآراء، ولا سيما عندما أستعرض شريط مواقفه الحياتية إلى جانبي، إذ طالما اعتمدتُ عليه كأخ لم تلده أمي، وهذا يكفي لمحو ألف شائبة، إن وجدت، ما دام في إمكان عبارة جميلة، كلمة جميلة، محوها.
لم يغب خليل مصطفى عن بالي، كما إبرهيم محمود، كما الشيخ عبد القادر الخزنوي، كما محمد زكي السيد، أبو سالار، كما سيامند ميرزو، كما غيرهم من أحباب كثر، لا يُجَدْولهم حبرٌ افتراضي، وهم رفُّ من الأصدقاء القدامى اللدودين الذين أحسستُ دائماً أن بيننا من القواسم المشتركة ما يكفي لدحر أي نقطة اختلاف هنا أو هناك، حيث ظلّ رقم هاتف بيته محفوظاً في الذاكرة، ألجأ إليه، في السرّاء والضرّاء، أحترم اقتناعاته، أحترم اختلافه، وأحترم ما بيننا من ملح وخبز، وأنا أستقرئ إيقاع الزمن من حولي، بما تتيحه لي باصرتي، في أصعب لحظات دورته على الإطلاق.
لعل الأشهر الأخيرة التي رمى بي نفاد مدة جواز سفري السوري، بعيداً من البلد الذي اخترته لنفسي بعدما ضاقت بي سبل العيش بين أهلي، الإمارات، جعلتني أحس بأنني في جحيم قفص مكهرب، تأنفه روحي، وهي تتقلب متذاوبة، حول سفودها، على رغم كل ما يجده اللائذون بهذا العنوان الثالث من رحابة صدر رسمية من لدن أولي الأمر، وعوام الأهلين، ما يجعلني في شغل عن نفسي، وعن كتابتي، تقتات روحي على شحنات أرواح المخلصين الذين جمعتنا بهم معابر الحياة هنا وهناك، لأقول: الدنيا لا تزال بخير. إذ يحضر اسم المصطفى خليل، بكل ألق التاريخ المشترك، والتضحيات، وبما يجعلني ملاماً أمام أي فصل عن الوصل، في حضرته، ما دام أنه الأخ الأكبر، وموطن رجاء وصية الأب. من هنا، لم تصلني أخبار استعداد ولديه للسفر. لم أسمع بتدابير رحلتهما، إلا بعدما انقطعت أخبارهما، متزامنةً مع شبح شاحنة الشؤم التي تسللت إلى شاشات التلفزة، وصفحات الجرائد، وأفواه الناس في مجالسهم، متوزعة على لغات الأرضين، في الأربعاء التالي لانطلاقة رحلتهما، أو أربعاء السفر نفسه، الأربعاء الذي طالما تطيّر منه المتصوفة، خلال مجرد ساعات مكربنة، كي أعلم بنبأ غيابهما، وأبدأ بالبحث عن أي بريق أمل يربطني بهما، أو يعيدهما إلى أهلهما، دافعاً بظلال التشاؤم بعيداً، وأنا أنتظر هاتفاً منهما: ها نحن وصلنا يا عمّاه، كما هي حالي في انتظار صديقي كسرى خلو، الذي كتب إليَّ "فايسبوكياً" قبل بضع ساعات من غيابه، وتحديداً في آخر مساء الخامس والعشرين من آب، عشية الأربعاء الأسود: سأكون في ألمانيا، غداً، ولا أزال أنتظره! ثقيلة، كئيبة، كالحة، مريرة، مرّت الأيام العشرون الماضية، ونحن نتشبث بأي بريق أمل، يسلّمنا اليوم للتالي، والأربعاء للأربعاء، حتى انقضت ثلاثة أسابيع، بكمال مساميرها التي تواجه أرواحنا ومشيئاتنا العزلاء، وينعى أبو حسين على صفحته الـ"فايسبوكية" النبأ الأليم، بعدما قطع كل خيط أمل بعودة نجليه، ورفيقهما المهندس مسعود يوسف، أحياء، وهو يقرع أجراس استنفاره بروح الأبوّة، بل مدفوعاً بحنان أم بريئة، أصيلة، لا تغني كل كنوز الكون عن ظفر ابن لها.
ثمة أسماء أخرى، عانت من كربنة أوكسيجين الشاحنة، الكاتمة الأصوات، المحكمة الإغلاق، حتى ولو من سنتيمترات قليلة، التي ربما كان يقودها امرؤ مغفل، أو أرعن، تفوّق حتى على السجان السوري في تكديس الأجساد الآدمية، بعضها فوق بعض، وهو يواصل مهمته عبر زهق أرواح الأبرياء، من دون اتخاذ أي تدابير حول سلامتهم، متغافلاً عن هاتيك الأصوات المستغيثة، المختنقة، وقرع أصابع الأوادم، المسردنين، في علبة مركبته، وفق هندسة مجرمة، ربما لانصرافه لسماع صوت صبية مغناج في هاتفه، كأحد أوجه قراءة مسببات هذه النكبة العظمى التي طالت أرواح الأبرياء، وهم في مظان الهواء النظيف، والأمن الحياتي، كي يتحولوا خلال مجرد أنفاس مكربنة، إلى أجساد هامدة، بلا حراك، تاركين وراءهم حكايات أمهات وأخوات وحبيبات وأخوة صغار وآباء وأصدقاء وجيران، لا تزال عالقة في سمّاعات هواتفهم، وذاكرات "واتس اباتهم"، و"فايبراتهم"، وبريد رسائلهم، أو أغشية طبلات آذانهم، أو جدران أرواحهم، وهم ينتظرون نتائج تحاليل الـ DNA.
غير مفيد البتة، أيّ كلام هنا عن الحرب، أو النظام القاتل، أو دواعي هجرة شبابنا، أو فلتان مافيات التهريب الذين ينشطون دولياً، براً وجواً وبحراً، على مرأى من العالم، المتابع للشأن السوري، مُراكمين ثرواتهم الباهظة من خلال الإتجار بأرواح البشر، بعدما غدت سوريا عبارة عن صفيح ملتهب يفوح منه، بلا توقف، نشيش الأرواح، المتلظية، وتوقفت الحياة التعليمية لدى أكثر من سبعين في المئة من طلاب مدارسها وجامعاتها، بل وانعدمت فيها سبل الحياة، في ظل الحصارات المتكاملة بين أشكال عديدة للإرهاب، تنوس ما بين قطبي النظام و"داعش"، ما دامت أغلى أرواح شبابنا تزهق بكل أفانين الموت.
لا يمكنني نسيان وجه حسين متألقاً في مطالع عقده الثالث، أو وجه رامان متماهياً في مطالع عقده الثاني، ولا نسيان جروح أبويهما الملتاعين، أو أفئدة أخوتهما وأخواتهما، وإن كنت سأجد صديقي خليل رابط الجأش، يرد عليَّ وأنا أهاتفه قائلاً: "أنا أعزّيك، أنت صاحب العزاء" عندما يلحظ ارتباكي وأنا أريد مواساته، وأنى لي أن أفعل ذلك. بل لا يمكنني أن أنسى شجاعة نجله بيمان في منفاه الكردستاني، وهو يمهد أمامي لتقبّل يقين نكبته بشقيقيه، بعدما صارت بين يديه علائم تنذر بما هو واقع حقاً، وهو ليس بغريب عمّن تربّى في كنف هذه الأسرة الطيبة التي أعرفها حق المعرفة، أسرة صديقي خليل مصطفى!

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم