الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

الرجل الذي ظنّ زوجته قُبعة

المصدر: "النهار"
رلى راشد
الرجل الذي ظنّ زوجته قُبعة
الرجل الذي ظنّ زوجته قُبعة
A+ A-

لم يكن أوليفر ساكس باكورة الكُتّاب الموفِّقين بين الأدب والطبّ، ولن يكون الأخير بطبيعة الحال. ففي حال إحتسبنا الأزمنة الحديثة فحسب، لوجدنا أصواتا جمّة ربطت بين التطهّر بأدوات الأدب وبين شفاء الجسد والذهن، عبر استخدام المشارط والمقصّات الطبيّة والعقاقير.


في قافلة هؤلاء البرتغالي أنطونيو لوبو أنتونيش الذي وفَد إلى جوار الرواية من الطبّ، ولم يقتصد في الإيماءات المُشيرة إلى تقرّبه من التأليف مدفوعا يما يشبه الدعوة أو الحثّ القدريّ. وهذه حال الكاتب البريطاني أوليفر ساكس كذلك، الآتي إلى الكتابة من خلال محاذاته المُصابين بوعيهم، ليصير بعد أعوام من التمرس، منقّبا مُتبصرا في دهاليز العقل والتسامح أيضا.


توفّي ساكس في منزله في نيويورك قبل ساعات، خاتما شهورا من الصراع مع مرض عُضال وبعدما استثمر حياته في أكثر النشاطات المُربحة على المستوى الإنساني. والحال ان طبيب الأمراض العصبيّة ساكس ألقى في توطئة مجموعته "الرجل الذي ظنّ زوجته قبعة" نظرة على حياة وعمل "صرفهما الى جانب المرضى". أوضح ان هذه السَرديّات التي تتركب من خلال مقالات الطويلة عمّدها ساكس "القصص العياديّة"، بزغت من احتكاكه بالمرض والمرضى، مناخ مدّه بأفكار لم تكن لتخطر في باله ودفعت به الى الإستفهام على نسق ما فعل نيتشه: "ألسنا جميعا مُستدرجين إلى السؤال هل يسعنا الإستغناء عن المرض؟".


في نص "الرجل الذي ظن زوجته قبعة" الجدّي للغاية، على نقيض ما يوحيه عنوانه، يشخّص ساكس رجلا بإسم دكتور بي "عرف لأعوام طويلة كالمغني ثم كأستاذ في أكاديمية الموسيقى المحلية"، رجل تائه بصريّا في عالم من المجردات الجامدة إلى حدّ اعتقاده ان رأس زوجته هو قبعته، التي وضعها إلى جانبه عن مجيئه إلى عيادة الطبيب. نقرأ "كانت إجاباته غريبة فعلا. انتقلت عيناه من شيء إلى آخر، ملتقطا تفاصيل صغيرة وملامح فرديّة (...). في وسع نور لافت أو لون أو شكل الاستحواذ على انتباهه وتعليقه، لكنه عجز وفي كل الحالات عن إدراك المشهد في اكتماله. فشل في رؤية الكلّ ورأى التفاصيل فحسب".


للأدب قدرة على احتواء آلام الناس وهذا على نحو ما، ما يعبّر عنه مسار ساكس الأدبي المُتنبّه إلى هؤلاء الذين جعلتهم أسقامهم شفافين، كأنهم غير جديرين بأن تجري ملاحظتهم حتى. يقرّ بأنه أراد دوما إلتقاط حكايات الناس، في موازاة رغبته في معرفة ما دار في الدماغ البشري. أراد أن يدرك "قدرة ما يزن باوندين أو ثلاثة، حواهم الرأس، على إطلاق خيالنا وتحفيز أرواحنا وفرديّتنا".


لا يمكن فلش نصوص ساكس المحورية من دون استدعاء كتابه "الصحوات" الصادر في سبعينات القرن المنصرم والمقتبس سينمائيا بعدذاك بمشاركة الممثل الراحل روبن ويليامز وروبرت دي نيرو. النص البازغ من رحم تجريب ساكس عقارا جديدا داوى لفترة وجيزة الناجين من إضطراب إلتهاب الدماغ السباتي، شكل منصة لعمل البريطاني الحاصل على "نوبل" الآداب هارولد بنتر المسرحي المسكوب في فصل واحد بعنوان "أحد أصناف ألاسكا". في النص يتصوّر بنتر سيدة في منتصف العمر بهوية ديبورا تستيقظ بعد قضائها نحو ثلاثة عقود في غيبوبة حُلميّة.


سَخَّر ساكس مسيرته التأليفية ليصير مَساحاً لمخاوفنا وليسأل اذا كان تَحول المرء إلى جزيرة على المستوى الذهني يوازي بلوغه الموت. إضطر ساكس في الأعوام القليلة الماضية إلى إخضاع نفسه للتمرين الذي فرضه على الآخرين خلال حياته، ذلك انه أجبر على تفسير إصابته بالسرطان في مقال في "ذي نيويورك تايمس" معلنا أنه سينصرف في الوقت المتبقي، إلى تصفية حساباته مع هذا العالم.


لو لم يقتنع الطبيب ساكس بأن الكاتب وإذا لاقى رذاذا من الحظ، ربما يخفّف من وطأة المعيش القاهر، لما كتب. والحال انه وفي إطار التعاطي مع الشيء المكتوب، أظهر الأناقة الأسمى، تلك التي اقتضت أن يضيء شموعاً في وسط عتمة خراب الذهن الإنساني.


[email protected]
Twitter: @Roula_Rached77


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم