الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

الثورة السورية والارث النباتي العالمي

المصدر: "النهار"
مهى البيضاوي- أخصائية السلامة الغذائية- كاليفورنيا
الثورة السورية والارث النباتي العالمي
الثورة السورية والارث النباتي العالمي
A+ A-

عندما قرأت كتاب "بنادق، جراثيم، وصلب: مصائر المجتمعات البشرية" لجارد دايموند، أستاذ مادَتي الجغرافيا والفيزيولوجيا في جامعة كاليفورنيا، لوس انجلس، في سنة ٢٠٠٠، تأثرت به كثيراً، أولاً فخراً بارتباطي بهذه المنطقة طبعاً، وثانيًا لإعجابي بتحليلاته وبقوة نظريته وصوابها. لكن برغم هذا الافتتان بالكتاب تمنّيت لو أدخل الكاتب على عنوان الكتاب كلمة آلهة أو الله (gods) وهي كلمة تبدأ أيضاً بحرف الـ g مثل gunsو germsوذلك لأن شعوب منطقة أوراسيا لم تتحكم بها العوامل الطبيعية والجغرافيا والبيئة فقط، إنما وجود عاملَي الألوهية والعبودية شكّلا أيضا دافعا للسيطرة والانتشار.



التطور الحضاري في الانتقال من مرحلة الصيد والبداوة البدائية إلى المجتمع الزراعي الذي ارتكز على تدجين الحيوانات والسيطرة على المحاصيل والثروة الحيوانية، أدى إلى الفوائض الغذائية التي بدورها حرّرت الناس من ارتباطهم بتحصيل قوّتهم، وتفرّغ بعض منهم للتخصص في أنشطة أخرى، منها بناء المعابد وإقامة وتنظيم الطقوس الدينية ونشر التعاليم الروحية. وعلى أي حال، فإن منطقتنا هي التي اختيرت كمهد للديانات السماوية وكلنا نعرف طبيعة الصراعات والحروب التي قامت فيها وما زالت لأسباب دينية وطائفية. ففي وقتنا الحاضر، ما من شيء يتحكم بمصائر مجتمعاتنا أكثر من هذه الصراعات الدينية والبنادق التي تؤججها.



إن كان التطور الزراعي هو الذي أعطى هذه المنطقة ميزة تفوقية حوفظ عليها بغلبة السلاح وتطويع الصلب وباكتساب مناعات ضد الجراثيم، فإنها بالذات هي الميزة اليوم المتّصفة بانتشار السلاح واستعماله التي تدمّر الموارد الزراعية وتعيق تطورها.
في ظل هذه الظروف الخطرة التي تسود المنطقة، والتي هددت وتهدد ودمرت وتدمر آثاراً كثيرة وإرَثاً فريداً، هناك خطر يداهم وبشدة إرثاً من نوع آخر لم تُسلط الأضواء عليه ولم يُعط الاهمية الجديرة به.



ففي جوار حلب (كان؟) يوجد مركز ابحاث دولي يعمل فيه اشخاص من مختلف انحاء العالم، ومن بين مهماته الحفاظ على بنك وراثي وتفعيله، لأكثر من ١٥٠ ألف عينة تمثل الاصول الوراثية لمختلف الانواع النباتية التي جُمعت من اكثر من ١٢٨ دولة. بكلمات أخرى هو المكان الذي يحافظ على الشكل الاساسي للنبتة او البذرة ويضمن عدم تغيّرها ويعمل على انعاشها او انعاش اخواتها في حال اقتضى الامر، وذلك لحفظ التنوع الحيوي وضمات احتياطي غذائي للمستقبل خال من الامراض ويتمتع بمقاومة وراثية. وقد تكون هذه البذور من اول الاشياء/الاحياء التي يحملها الانسان في رحلته لمكان آمن يحل محل سكنه الاصلي الا وهو الارض (لهواة النوع سينمائيا أو فعليا ان تم اكتشاف البديل ). ولقد تم اختيار جوار حلب لهذا المركز لكونها جزءاً من السهول القديمة المعروفة بالهلال الخصيب التي انبثقت منها الحضارات، كل الحضارات القديمة. اذا هذه السهول هي من الاوائل التي استصلحت واستثمرت منذ عشرات آلاف السنين لإنتاج القمح والارز والفاصولياء والشعير ومحاصيل متفرقة اخرى مثل البهار الحلبي. اما متابعة استصلاح هذه الاراضي فلها اهمية كبيرة في ظل ازدياد التصحّر والاحتباس الحراري والذي يتطلب بالتالي تلاؤم اكثر واكثر للنبات مع التربة والمناخ الجافين.
هذا الصرح المسمى بالمركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (ايكاردا) هو صندوق هذا الكنز من الموروث الزراعي المهم للبشرية والذي تمكن علماؤه من الحفاظ عليه قدر المستطاع.
في الوقت الراهن تمت السيطرة من قبل الثوار او القوات المعادية للنظام على المقر الرئيسي للمركز الواقع في تل حديا في جنوب ريف حلب واحتلت منشآته واتخذتها مركزا لها. المعلومة المهمة هي انه قبل هذا تمكن العلماء تدريجياً من "نسخ" واخراج عينات لمعظم البذور المحفوظة ونقلها الى بنوك مخصصة لها لتنعم بظروف مثالية وذلك في شمال النروج.



رغم هذا فقد طالبت هذه القوات بمقابل مالي لحماية هذا الصرح، رغم عدم فهمها بالاغلب وظيفته، الا ان سمته الدولية كافية لجذب الطامعين بأي شكل من اشكال التعويض بدل خفض تهديد قد يكرسه وجودهم هم. رفض المركز دفع اي مبلغ وشحّ الموارد بأي حال اجبرا الثوار للرضوخ والقبول بنسبة من المحاصيل يعتاشون عليها. وهذه العملية لا تضر الايكاردا بتاتاً لأن الاهمية والأولوية هي لقياس ايرادات المحاصيل او نسبة الانتاجية تحت عوامل طبيعية مختلفة وليس الكمية مما يجعل هبة المحصول أمراً يسيراً. وفي الواقع قد يكون هذا الاتفاق أفضل لسببين: أولا لأن أسعار السلع الغذائية في سوريا كانت تزداد يوماً بعد يوم بانماط غير مضبوطة وغير مسبوقة، وثانياً لأنه حافز على ضمان نشاط المركز الزراعي لضمان بالتالي غذاء الحارسين له.



يعمل الفريق الصغير المتبقي من أجل المحافظة على نوعية وجودة التربة بعد تفكيك مركزية هذا الصرح العلمي حيث توزعت نشاطاته على بلدان عدة مثل مصر والمغرب والأردن ولبنان وتركيا ولكن ايضاً والأهم من أجل الحفاظ على مرونتهم وديبلوماسيتهم في وجه تغيُّر الفرق المسيطرة التي تفرض مفاوضات جديدة متعبة مهددة تنتهي بنفس النتيجة. وكل هذا لطمعهم بإدارة ٩٥٠ هكتارا من المزارع، والحق يقال بأن بعض الفصائل تقدر العمل البحثي وتدافع عنه. أما الجدير بالذكر فهو انخراط بعض المسلحين في العمل الزراعي لأنه كان نشاطهم الأصلي قبل الثورة ولكن هذا المركز لن يتمكن من اعادة "تدوير" او تأهيل المقاتلين انما الخوف من تلوث الأرض والتربة جراء الحرب الدائرة في المحيط وذلك لأكثر من ثلاث سنوات الآن.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم