السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

سيّدي الوزير لقد أخطأتم

برونو طبال- فنان ومواطن لبناني
سيّدي الوزير لقد أخطأتم
سيّدي الوزير لقد أخطأتم
A+ A-

سيدي الوزير،


لقد أخطأتم، والاعتراف بالخطأ فضيلة.


سيدي الوزير، أنتم الآتون من بيتٍ طرابلسي مرموق، معروف بالأخلاق، والشهامة، والنزاهة. أنتم وزير ليس بدخيل على السياسة أو على شؤون الناس، إذ إن تاريخكم، وإدراككم، وخبرتكم، تشرفكم.
ولكنكم أخطأتم. فيا سيدي الوزير لا بد من مراجعة حساباتكم.
يا سيدي الوزير، انتظرنا منكم قدرة أكبر على استيعاب شعبكم الذي أوصلكم بثقته إلى المنصب الذي تتمتعون به اليوم. انتظرنا منكم أن تفهموا نقمة شعب لم تتوقف معاناته مع نهاية الحرب الأهلية، بل تفاقمت مع بروز سوء الحالة الاقتصادية ذروتها. بعد القنابل والرصاص، جاءت البطالة، والهجرة، والحاجة، والعوز. أكثر من عشرين عاماً على تراكم دين عام باهظ، والكهرباء ما زالت مقطوعة، والماء ما زالت في "السيترن"، وحال الطرقات الرديئة تقتل اولادنا كل يوم، و"الزعران" الفالتون يذبحون الناس، ويدهسون الأمهات، ويقتلون خيرة عسكرنا دون حساب أو عقاب.


يا سيدي لقد أخطأتم.
تحجيم نقمة شعب محقّة على وضع لم يعد يحتمل هو ثمرة تعجرف البعض ورشوات وصفقات، ووصفه بالاعتداء على شخصكم هو رؤية ضيقة للأمور.
فإلى متى ستكون عبادة الشخص في أعلى سلَّم أولويات مجتمعنا وطبقتنا السياسية؟ متى يستوعب المسؤول أن مطالب شعبه، كما غضبه، هي أعلى وأسمى من كل اعتبار شخصي، وهي حق مقدس ومثبت في الدستور وكل الأعراف المعترف بها في الدول الراقية؟ ألم تروا يا سيدي في أوكرانيا كيف رمى المتظاهرون ذاك الوزير في سلة المهملات دون أن يتعرّض اليهم أحد أو يلاحقهم قضائياً؟
كلا يا سيدي الوزير، فقد كان لهذا الوزير المُهان قدرة على الاستيعاب أكبر من الحسابات الشخصية. وهذا ما انتظرناه منكم خاصةً بعد رشق سيارتكم بالنفايات، لا أكثر. والأهم انكم لم تفهموا أن هذا الغضب موجه إلى كل الطبقة السياسية التي تمثلونها عوضاً عن الاعتقاد بـأنه يستهدف شخصكم المحترم. ألا تعتقدون انكم تسرّعتم في ردّة فعلكم؟ الأرجح انكم لم تفهموا أن غضب شعبكم قد وصل إلى درجة اليأس، وأن نقمته هي نتيجة هذا التقصير والإهمال، والفساد في آن.



يا سيدي، أن تقولوا إن "الاعتداء (عليكم) هو اعتداء على هيبة الدولة" هو بحد ذاته تقدير خاطىء للحال.
فعن أي هيبة تتحدثون يا سيدي الوزير؟
هل ينفع أن أسرد عقودًا من غياب الدولة وهيبتها عن هذه البلاد؟ هل ينفع أن أذكّركم بعجزكم عن إقرار قانون انتخابات عادل، عن إقرار موازنة الدولة منذ سنين، بعجزكم عن الاتفاق على التسميات الرسمية؟ هل ينفع التذكير بمرور أكثر من سنة على غياب رأس الدولة وعجزكم عن انتخاب رئيس محترم يملأ المنصب الأول؟
عن أي هيبة تتحدثون يا سيدي؟
عن هيبة دولة تلاحق ناشطين في المجتمع المدني وتترك المجرمين والقتلة احرارًا؟ عن هيبة دولة ما زالت تتخبّط منذ أكثر من سنة، وهي ليست سوى لعبة في أيدي مجموعات ارهابية تحتجز إثنين وعشرين من خيرة عسكر بلادي؟



سيدي الوزير، لقد أخطأتم.
تسقط هيبة الدولة عندما تعجز الدولة نفسها عن أن تقوم بواجباتها في حدها الأدنى.
تسقط هيبة الدولة عندما يعامل الناشط المتظاهر، وكأنه يهدّد الأمن القومي ويجر إلى التحقيق في فرع المعلومات، بينما سلاحه الوحيد هو الحق وطلب العيش بكرامة.
تسقط هيبة الدولة عندما يسقط العسكر برصاص الغدر في أزقة المدينة ويفر الجاني بلا حسيب ولا رقيب.
تسقط هيبة الدولة عندما تلجأ في ارباكها، وتخفيقها، وافلاسها السياسي والإداري، إلى نعت متظاهرين من المجتمع المدني بأنهم "لا ينتمون الى شعبنا ابدا"، وهم على العكس جوهر نسيج شعبنا المحتضر وشبابنا المبتورة اجنحته، والمسدودة آفاقه، نتيجة سنوات من أداء رديء، وغير مسؤول، وفاسد، لمسؤولين.


نعم سيدي الوزير، لقد سقطت هيبة الدولة منذ زمن.
سقطت هيبة الدولة عندما أصبحت كل القوانين تُطبّق انتقائياً، وعندما أصبح لبنان برمته رهن المحسوبيات، والأحادية، والعجز والإهمال، وضاعت الهوية الوطنية في ظل أشباح الطائفية المتطرفة.
سيدي الوزير، لقد سقطت هيبة الدولة عندما قلتم: "إن لم تأخذ الدولة حقّي فأنا أعرف كيف أخذه". كلام خطير جداً، إذ إنه قد يُفسَّر أولاً وكأنكم تؤكدون غياب الدولة فعلياً، وثانياً كأنكم تشجعون المبادرات الذاتية والعشوائية لتطبيق العدالة الفردية أو تصفيات الحسابات الشخصية.
وهذا يا سيدي الوزير كلام مرفوضٌ قطعاً، كلام لم ولن ننتظر يوماً أن نسمعه من حضرتكم بالذات، وأنتم المعروفون بأنكم من أشرف، وأرقى، وأنبل الناس.


نعم يا سيدي الوزير لقد أخطأتم.
عار علينا ما جرى. عار على تاريخنا الاستقواء ضدّ طلّاب جامعيين، ذنبهم أنهم رشقوا سيارة مسؤول بحفنة من الاكياس والزجاجات البلاستكيّة. كما تعرّض العميد شامل روكز البارحة إلى حادثة مماثلة للتي تعرضتم لها وتعامل مع الموضوع برحابة صدر وتعالي، كذلك ننتظر منكم.
ننتظر منكم مبادرات تُسقِط التهم ضد أولئك الناشطين والافراج عنهم في أسرع وقت، كي لا تعود إلى أذهاننا ذكرى الوصاية الفاشية التي اعتقدنا اننا قد تخلصنا منها.
وهكذا، وبمبادرتكم الكريمة والمسؤولة، تُعاد الينا هيبة الدولة الأم، الحاضنة لكل أبنائها وغضبهم، حتى ولو كان تعبيرهم عن هذه النقمة قاسياً بعض الشيء.
فأنتم الأعقل والأكبر، وانتم في موقع المثال الأعلى والقدوة.


يا سيدي الوزير، لا تدعوا هذه الفرصة تفوتكم، لأن قمع شعب مظلوم ومحقّ هو أخطر بكثير من "هيبة" دولة في الشكل، وقد تؤدي الى فقدان هيبة الوطن لا بل إلى فقدان كل الوطن.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم