الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

شبّيك لبّيك... نقرةُ زرّ والعالم بين يديك!

شربل أبي منصور
شبّيك لبّيك... نقرةُ زرّ والعالم بين يديك!
شبّيك لبّيك... نقرةُ زرّ والعالم بين يديك!
A+ A-

يبدو الفانوسَ السحريّ الجديد، لكن لا جِنيّ فيه بل جنون فكر وعبقرية. أرى علاء الدين يتحسّر على ما يفوت عينيه من سحرٍ وعجب وخيال قد يعجز العقل عن تصوّرها. أما المارد أو العبد في هذا الفانوس فقد وضّب حقائبه وأمنياته الثلاث وارتحلَ في طريقه ذليلاً، كاسفَ الوجه، بعدما أزاحه عن عرشه هذا الجهاز الصغير، الذي يُحقّق لك ما يطيبُ من أمنيات من دون تبجّح فيتناهى إلى مسامعك صوته الهامس: شبّيك لبيك...عبدك بين إيديك"، انقُرْ تجد.


يعلق في بالي سؤال كان يطرح في برامج الألعاب والمسابقات أو يحضر في بعض الأفلام: في حالِ علقت على جزيرة أو على سفح جبل أو أحد الأمكنة النائية، مَن قد تصحبه معك أو تتمنى وجوده بجوارك؟ غالباً ما أتت الأجوبة عن الحبيب، أفراد العائلة، أو أحد الحيوانات الأليفة. لكن أحسبُ اليوم، أن جواباً جديداً سيخترق هذه اللائحة لئلّا نقول يتصدرها، أتتساءلون ما هو: الهاتف المحمول.
نعم، إنّه مالئ الدنيا وشاغلُ الناس. ولا ينخدعنّ أحد بحجمه الصغير ففعله كبير. العالم كلّه ينطوي فيه. لقد قلبَ كل المقاييس وغيّر كل المعادلات وصارت حياتنا اليومية تدور في مداره. فهو يتصدّر يومياتنا وأمسياتنا وجلساتنا، بعدما كان القنديل والحكايات ثم الراديو فالتلفزيون.
هو كالولد المدلّل بين يديّ، أهدهده، أداريه، أحنو عليه أكثر مما تعطف أمٌّ على طفلها، أتفقّدُه بين الفينة والأخرى، ويا خوفَ فؤادي إذا نسيته في مكان ما أو أضعته، فأعود على أعقابي بحثاً عنه وخافِقي يطرقُ كمَن أضاع ضناه. صباحاً أستفيق على زقزقاته ومساء أغفو على ضوئه الوهاج.
هاتفي المحمول، يا أنيسَ وحدتي، يا منقذي في لحظات الحرج والارتباك والضجر، يا صديقي وقت الضيق، أنت حقاً خير جليس في الأنام! اهتِفْ أهرع إليك عاشقاً ينتظر أنفاسَ محبوبه، أتقبّضُكَ، أمرّرُ يدي على شاشتك كمَن يمسح عن وجه السماء الغيوم، اهتِفْ، اهتِف، فأينَ شدو البلابل من شدوك؟!
لعمري كيف لعقلٍ بشري أن يبتدع آلة كهذه؟ أيّ نبوغ وجنون وعبقرية تحويها خلايا هذا الدماغ حتى لأكاد أجزم أن هذا الاختراع استعصى على إدراك سكّان وادي عبقر؟!
مَن كان ليصدّق، يا عزيزي، أن ابنك الموجود في قارّة أميركو فيسبوتشي أو في بلاد البشرة الصفراء، ويبعد مسافة مئات آلاف الكيلومترات من البرّ ووراء البحار تستطيع من خلال هذه الآلة السحرية التحدّث معه ورؤيته كأنّه في الغرفة عينها واقف أمامك؟ آهٍ، أين كان هذا الاختراع من قبل؟ أما كان ليوفّر عذابات قلب والدِين وقلقهم وترقّبهم لسماع خبرٍ عن فلذات أكبادهم، ووَجْدِ وعشقِ خِلٍّ لخليلته، وصراخ حناجر أسلافنا في تلك الجبال الصمّاء تدوي من أعلى قمة إلى الوادي...أكانَ جدّي سيعقل أنه يستطيع التخاطب مع مطلق شخص وهو في حقلة زيتونه من خلال قطعة المعدن هذه، أو ذاك المسكين صاحب صندوق الفرجة الذي كان يفعل المستحيل ليجذب الصغار ويستميلهم، ما كانَ سيكون ردّ فعله لو شاهد ما يختزنه هذا الصندوق الإلكتروني من نوادر وغرائب؟!
في المقابل، وككلّ اختراع تعتريه شوائب وخصوصاً إذا أساء الشخص استعماله. فهذه الآلة - الهاتف لمساعدتنا لا لاستعبادنا؛ فلا يجوز أن نتحول روبوتات في استخدامها: رؤوسنا إلى الأسفل، وجوهنا وعيوننا مسمّرة في الشاشات، لا نخطو خطوة واحدة من دون تفقد هاتفنا، وكأن تعويذة ألقيت علينا، أو كأننا مخدّرون وواقعون تحت سحره ورحمته. وهذا قد يشلّ مهاراتنا وكفاياتنا، العملانية والفكرية، فيمسي دماغنا في حال من الانكفاء والصدأ والخمول.
الأكيد أن أحوال كل عصر، بمحاسنها ومساوئها، تقاس في ميزان ذلك الزمان وتخضع لأحكامه، فهل، مثلاً، نستطيع تخيّل ابن بطوطة في رحلاته متأبّطاً هاتفه المحمول؟ أو امرئ القيس بدل الوقوف على الأطلال يبكي ذكرى حبيبته على سمّاعة محموله؟ أو جبران عوض رسائله إلى مي زيادة يهاتفها؟ ربّما مستقبلاً سيبدو هذا الاختراع الفذّ تافهاً للّاحقين من بني جنسنا! لا شيء يبقى على حاله غير مشاعرنا الإنسانية.
فيا صديقي الإنسان، يا أيها الجرم الصغير في هذا الفضاء وحبة الرمل في هذه الفلاة، التحق بهذا الركب التكنولوجي، ولكن لا تكن عبداً فيه ولابتكاراته الزائلة بل حافظ على كينونتك، مشاعرك، تواصلك مع عائلتك، مع الآخر، مع الطبيعة الغنّاء، مع كلّ ما يكوّنك حقاً!


[email protected]
Twitter: @AbimansourC


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم