الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

موسم "داعش" في نسخته التونسية

المصدر: "النهار"
علي بوراوي- صحافي تونسي
موسم "داعش" في نسخته التونسية
موسم "داعش" في نسخته التونسية
A+ A-

عندما نشرت وسائل الإعلام صورة جثّة المتّهم بارتكاب جريمة الهجوم الإرهابيّ على المصطافين في منطقة القنطاوي بمدينة سوسة التونسية، وهي ملقاة في أحد الشوارع المحيطة بمسرح الجريمة، ظنّ كثيرون أنّ المأساة انتهت هناك بقتله.


مجرم مسلّح يتسلّل إلى الشاطئ في يوم رمضاني، ويزرع الرّصاص في المصطافين، فيردي ثمانية وثلاثين منهم قتلى، ويصيب نحو ثمانين آخرين بجروح متفاوتة الخطورة. وكأنّ تعليق الجريمة على الإرهاب كان كافيا لفهم ما حصل. نحن أمام مدرسة جديدة لإنتاج الإرهاب. إرهاب يستهدف في نسخته الحالية سياحا أجانب، جاءوا معهم بعملة صعبة، تسهم في إنقاذ موسم سياحيّ على حافة الإفلاس. الأكثر من ذلك، أنّ المتّهم شاب جامعي، يحمل من المعارف ما يسعفه في التمييز بين رجل السلطة وصاحب القرار، والمواطن العادي الذي يبحث عن ساعة تسلية وترفيه، تنسيه متاعب الحياة.


لكن شهادات كثيرة تتالت بعد صدمة الخبر الأوّل، وضعت أمام التونسيين علامات استفهام كبيرة، يحتاج تشفيرها إلى وقت وجهد. عدد ممّن شهدوا الحادثة على مسرح الشاطئ، قالوا إنّ ذلك الشّاب لم يكن عادياً. فقد كان يقتل وهو يترنّح في مشيته، وكأنّه يتحدّث إلى عزيز عليه. وصرّح طبيب جراح كان يعالج المصابين، أنّ الرصاص ليس من نوع واحد، بل هو أنواع، ما يفتح باب الاحتمالات على أنّ القاتل والسلاح المستعمل، ليسا واحداً. ثمّ جاءت نتيجة تحليل دم سيف الدّين الرزقي، الشاب المتّهم في الجريمة المذكورة، لتقول إنّه يحمل آثار جرعات من مادة مخدّرة.


أصدقاء الشّاب وجيرانه ومعارفه، لم يخفوا صدمتهم لما سمعوا. أجمعوا على أنّه عاديّ جداً، لم يعرف عنه أحدٌ علاقة بأيّ من الجماعات المتطرّفة، أو فكرها. أمّا والداه، فقد رفضا التّهمة جملة وتفصيلاً. قالت أمّه إنّه أخبرها أنّه سيقضي ليلته في العاصمة. وقال والده، لم يلاحظ فيه أيّ تغيير، وأنّه لم يتغيّب يوما عن مقاعد الدّراسة، فكيف تتحدّث وسائل الإعلام عن خضوعه لتدريب في مجموعة إرهابية طيلة عامين كاملين. وأكّد الوالد، كما الأمّ، رفضهما اتهام ابنهما بالتطرف، وأنّهما لا يمكن أن يقبلا أو يصدّقا ما يقال عنه.


نفس الشّيء تقريباً نجده في عملية الإعتداء على السياح، التي شهدها متحف "باردو" بالعاصمة، الملاصق لمقر مجلس النواب في مارس الماضي. الضّحايا سياح أوروبيون كانوا يزورون المتحف، والمتّهم شاب يسكن في إحدى ضواحي العاصمة، عرف بالإستقامة. فقد تناول ياسين العبيدي فطور الصباح مع أسرته، ثم ذهب إلى عمله في وكالة أسفار، وخرح بعد ساعتين من العمل لتناول قهوة. وقد خلّفت تلك العملية أربعة وعشرين قتيلا، وخمسة وأربعين جريحا. ذهل أصدقاء ياسين، وكذلك أسرته وأقاربه، ولم يصدّقوا ما سمعوا، عندما بلغهم أنّه المتّهم الرئيس في تلك العملية، فقد كان عاديا في حياته، مستقيما في سلوكه، لم يعرف عنه أحد ميولاً نحو الفكر المتطرّف. شهادات بعض السياح هي الأخرى، قالت إنّ الذي كان يطلق عليهم النار، ليس ياسين الذي رأوا صورته.


عمليتان خطيرتان، خلّف كلّ منهما عددا كبيرا من الضحايا، جلّهم سياح أوربيون، والمتّهم شاب لم يعرف عنه انحراف في الفكر أو السّلوك، يتّهم بقتل أبرياء لا يعرفهم. تصدم الأسرة ولا تصدّق ما حصل، ويفاجأ الأصدقاء فلا يقوون على الفهم. ويقتل المتّهم، فتدفن معه أسرار كثيرة. وتتوالد روايات الحادثة، وتتقاطع تصريحات الشهود ومسؤولي الدّولة، لتحيل المتابع إلى كمّ من المعطيات بالغ التناقض.
إثر عملية باردو، تمّ تنظيم مسيرة مناهضة للإرهاب، شارك فيها عدد غير قليل من زعماء العالم، حاكت مسيرة باريس التي أعقبت حادث الإعتداء على صحيفة "شارلي ابدو". وإثر عمليّة القنطاوي في سوسة، اتّخذت الحكومة بعض الإجراءات، قيل إنّها لمحاربة التطرّف الديني، لكنّ كثيرين مالوا إلى اعتبارها باباً لعودة الدولة البوليسية، والتضييق على التديّن. وعاد السؤال من جديد: لماذا تسارع الحكومة في كلّ حادث إرهابي، ومنذ اللحظات الأولى، إلى التضييق على الحرّيات والتديّن، والتّمكين لرجال بن علي الذين أبعدتهم الثّورة؟ ما هو مبرّر إغلاق ثمانين مسجدا، وإعفاء عدد من خطباء المساجد، والتلويح بإعادة النّظر في رخص عدد من الجمعيات والأحزاب، رغم أنّ نتائج التحقيقات مازالت بعيدة؟ ثم ازدادت الإجراءات الأمنية، فأعلنت حالة الطوارئ في البلاد، وانطلقت أشغال بناء جدار عازل على الحدود مع ليبيا؟
الملفت أيضا في تونس، هو أنّ الإعلام الذي مازالت أهمّ مؤسساته بين أيدي رجال بن علي، يروّج كثيرا، ومنذ مدّة، لكثرة حملة الفكر التكفيري الجهادي، وكأنّ تونس أصبحت بقدرة قادر، أخصب مزرعة عربية لهذا الرهط من الفكر والسلوك. وهي حملة لم تتوقّف قطّ، وروادها ظلوا على فصام كامل مع الثّورة.
يبدو أنّ موسم رزع داعش، في نسختها التونسية، يجري مسرعاً ويسابق الأحداث. "داعش"، في موازاة شقها الواقعي، هي وصفة تحقّق أغراض اللاثورة، اللاحرية، وفق جدول زمني مرتّب. وصفة، تمعن في نشر الفوضى، وتساهم في إحكام القبضة من جديد، بعنوان جديد.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم