الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

فَصْل اللحم عن الظُفر في تلك الحديقة – المقبرة!

المصدر: "النهار"
فاطمة عبدالله
فَصْل اللحم عن الظُفر في تلك الحديقة – المقبرة!
فَصْل اللحم عن الظُفر في تلك الحديقة – المقبرة!
A+ A-

يعزّ على مُشاهد حزين على أحزان الآخرين، أن تُحوِّل الحرب البشر الى آمالٍ تنطفئ. ننسى أنّ ما نتابعه عبر قناة "دبي" مسلسلٌ، ونرى في "بانتظار الياسمين" بانوراما شعبٍ معذَّب. تأوي إحدى الحدائق الدمشقية عائلاتٍ مأزومةً، ذلّتها الحرب وداست على رأسها. يحملنا المسلسل (كتابة أسامة كوكش وإخراج سمير حسين) الى حديقة تستحيل مسرحاً يجري البؤس على خشبته لينتهي العرض بقتل البطل. نتكلّم على الخسارة حين تشتدّ قسوة والأسى حين يصبح مصيراً جماعياً مخيفاً. المسلسل يوميات الجروح المشرَّعة على رفض الاندمال، وتفاصيل عميقة عن الشعور بالارتماء في قعر، على رغم تفاديه الإشارة الى المجرم بالإصبع وتقديمه بنيةً قائمة على منطق النتيجة بلا السبب.



سلاف فواخرجي في دور لمى وولداها. 


يسمّي المسلسل ما يحدث في سوريا "أزمة" ويسرد ويلاتها على ألسنة شخوص لا يتجرّأون دائماً على رفع الصوت. "يجرّد" الإنسان السوري من ظروف شقائه سياسياً ويضعه في "عزلة"، ليدرك أنّ الحرب مستمرة من غير أن يكترث لأطرافها. يصبح الرهان على تضخُّم الوجع في العيون المقهورة تعويضاً لفَصْل الظُّفر عن اللحم، فـ"الإنسان المحض"، ذريعة درامية تتيح طَرْح الإشكالية بغياب بعض العناصر. أبو الشوق (أيمن رضا في دورٍ نوعي محترف) وعصابته شبّيحة يعتاشون من الحرب ويدعون لها بطول العمر. لوهلة يظهر كـ"شبّيح محايد"، يترجم التشبيح بأعماله من دون الجهة التي يشبّح باسمها. تحرق النار الجميع ولا أحد يعرف مصدرها، فيُستَعاض عن هذا كلّه بضمير الغائب: "رح يضربوا" و"رح يهدّوا البيت فوق راسنا"، وهو المنطق عينه الذي يسمّي الحرب "أزمة"، محاولاً "امتصاص" واقعيتها. خارج سياسة دفن الرأس في الرمال، العمل رائع. بالقسوة والغصّة والطفولة التي تُقتَل. يا لعذابات البراءة المسلوبة من وجوهٍ تشيخ قبل نضوجها، كوجه الصغيرة نور التي خُطفَت لأنّ الحرب لا تضع قواعد أخلاقية للعبة. تجسّد سلاف فواخرجي في دور الأمّ لمى الانتظار الرهيب لأملٍ لن يأتي. تأتي وولدَيْن الى الحديقة بحثاً عن ملجأ بعدما خرج الزوج ولم يعد. تمثّل الترقُّب الحارق: الزوج وأبو الولدَيْن من جهة، والابنة المخطوفة من الجهة الأخرى. كلّ مَن في الحديقة هاربٌ من موتٍ إلى موت، ومن مصيبة إلى مصيبة أكبر. ندوب الذاكرة السورية الثكلى.



شكران مرتجى في دور أم عزيز. (الصور عن "فايسبوك" المسلسل). 


تمطر السماء بقسوة على مَن يفترشون الأرض وتهتزّ بهم الخيم مثل أراجيح الهاوية. يُسقِط العمل على فظاعة الحرب طبيعةً قاسية وظروفاً مناخية لا تكترث لفقراء بلا مأوى. الشتاء يفتك بـ"الربيع السوري"، مُتحامِلاً هو الآخر على السوريين، متآمراً عليهم فرداً فرداً. المسلسل دلالاتٌ أكثر مما يجسّد حالاتٍ خاصة. أبو الشوق يختزل الاستغلال قبل الجهة المُستغلَّة؛ فيما سكان الحديقة يختزلون معاناة الجماعة- الوطن قبل معاناة الذات. "المصير المشترك" يطارد العائلات ويدفعها الى البحث عمن تسلّمه أمرها، فنجد عائلة أبو سليم (غسان مسعود) وأم سليم (صباح الجزائري) تُسَرّ لأنّ عريساً تقدّم للزواج من إحدى بناتها، كمَخرجٍ لتخفيف العبء وإنقاذ الابنة من ويل الخيمة وجنون الليل الماطر. على مقربة من هذه العائلة، تنتظر أم عزيز (شكران مرتجى اللافتة بجميع أدوارها) مَن يزيل عن الأوطان تشوّهاتها، قبل أن تنقذ وجهها من التشوّه الذي أصابه. الممثل في هذا المسلسل خلاصة ما يجري في سوريا، بعدما خرَّبت الحرب أفرادها وأعادت "بناءهم" وفق حسابات أخرى. المسألة إعادة "تصنيع" المسحوقين، كبيّاع النراجيل بريمو (أحمد الأحمد) المُستكثر على نفسه امرأةً يحبّها لشعوره بأنه نكرة (أو عدد بلغة الموتى). يظهر لاحقاً أنّ الذين يقطنون في البيوت ليسوا في منأى عن تعاسة السوري المشرَّد. كراهية الأزواج، تيه الأبناء، الأمان الزائف و"الرؤوس الكبرى"، انعكاساتٌ تدميرية لمجتمع الحرب على أبناء قرّروا البقاء. حربٌ كلّفت غالياً وهدَّت حَيْل الضمير والإنسان والأرض. حتى الجامعات ما عادت تخرِّج أدمغة. منذ بدء "الأزمة" وهي تشهد على بداية موت العقل.


[email protected]


Twitter: @abdallah_fatima

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم