الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

مأزق النظرية الانكفائيّة في الأمن القومي المصري

جهاد الزين
جهاد الزين
A+ A-

خرجت صحيفة " لوموند" قبل ثلاثة أيام وبين موضوعاتها الرئيسية تحليل إخباري بعنوان: "تهديد إرهابي بوجوه مختلفة في مصر". في الحقيقة وفي لحظة كهذه يبدو هذا التوصيف، رغم صحّته، لقارئٍ قادمٍ حديثاً إلى أوروبا من الشرق الأوسط نوعاً من الاستفزاز غير المتَعَمَّد. بل سيبدو بالنسبة له في لحظات دامية وموجعة كالتي تشهدها مصر، نوعاً من التبرير  للإرهاب الأصولي الذي ضرب بعض أكبر ضرباته ضد الجيش والدولة والمجتمع.


هناك دائما "وجوه مختلفة" لأي موضوع. لكن ليس في مصر في هذه اللحظات إلا "وجه واحدٌ" طاغٍ للإرهاب لأنه يَنتج عملياً من مناخ خارجي  محيط بمصر وما كان له أن يتفاقم بهذا الشكل بسبب الظروف الداخلية المزمنة والقديمة وحدها. ربما كان التوصيف الأدق هو القول بـ"تهديد إرهابي من مصادر مختلفة غامضة" في مصر. بكلام أصرح ليست المسألة الآن مسألة تهميش سياسي واقتصادي ينتج حالةً إرهابية فالتة من أي قدرة على الضبط، حسب التحليل الكلاسيكي الذي تجاوزه الوضع، وإذا لم يتجاوزه فنحن أمام حالة متعددة الدول وليست مصرية فقط. الأساس أن ما يظهر هو فعلاً محاولات منظمة وخطيرة، بعضها غامض لإدخال مصر في آتون الانهيار العام في المنطقة الذي نجحت مصر الدولة والمجتمع أن تبقى خارجه.
هل نستطيع أن نتخيَّل أنفسنا داخل أول اجتماع لمجلس الأمن القومي المصري بعد الاعتداء المجزرة في سيناء ضد الجيش والمدنيين وبعد اغتيال النائب العام في القاهرة؟ ليس سهلاً علينا هذا التخيّل وإنما لا بد منه، فهذه مصر، أي أكبر ما بقي لنا من دول متماسكة في العالم العربي والتي على صمود تماسكها كمجتمع وكدولة سيتوقّف إمكان كبير لاستعادة دول ومجتمعات منهارة حولنا من جهة، ومنع دول ومجتمعات صغيرة أخرى من الانهيار كلبنان والأردن وحتى تونس وكبيرة اخيرة كالجزائر والمغرب، من جهةٍ ثانية.
لكن هذا التعاطف الكامل لا يمنع من ملاحظة أن نظرية الأمن القومي المصري حسب ما يديرها الجيش والدولة وقوة الثقافة السلمية في المجتمع المصري حاليا برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسي هي في مأزق كبير من ناحية محدَّدة هي السياسة الخارجية.
سيسارع البعض طبعا إلى التساؤل عن معنى اعتبار السياسة الخارجية أول بند على جدول أعمال الأخطار الأمنية المتفاقمة واللئيمة على مصر الآن؟
الجواب هو أن المأزق يتعلّق، ببساطة، في عدم قدرة مصر على اتخاذ قرار التدخل العسكري الخارجي، بينما صار من الواضح أنه لا يمكن معالجة تفاقم الإرهاب على الداخل من دون تدخل خارجي ومُلِح. وعدم القدرة ناتج عن المعوقات السياسية الغربية وبعض الإقليمية.
أين هو مسرح هذا التدخّل الضروري؟
الجواب الواضح هو الذي تستشعره الدولة والجيش المصريان منذ سنوات ولا سيما في السنتين الأخيرتين: ليبيا أولا وثانيا، وربما غزة نسبياً مع أن إسرائيل، حسب صحيفة ليبراسيون أمس الأول، "قلقة" من ازدياد نفوذ "داعش" في غزة. لكن هذا قد يكون نوعا من التحريض الإسرائيلي خصوصا أن الإسرائيليّين بات لهم علاقة شبه علنيّة للمرة الأولى في تاريخهم مع بيئة تنظيم "القاعدة" وفرعه "النصرة"، يستقبلون "جرحاه" الآتين من الأراضي السورية إلى داخل إسرائيل. إنما أجهزة المخابرات المصرية قادرة بالنتيجة على تحديد جدية الخطر الغزاوي وحجمه الفعلي قياسا بالخطر المفتوح الضخم في ليبيا. وفي كلتا الدائرتين نفوذ "الإخوان المسلمين" تقليدي وكبير.
لقد قتلت الأحداث الأمنية المريعة الأخيرة بشقّيها السينائي والقضائي مشروع أي تدخّل مصري مباشر في اليمن لم تعد أوضاع مصر وأولوياتها تتيحه. ولكنّ مجزرة سيناء واغتيال النائب العام بما هما تصعيدان خطيران ضد الجيش ومعنوياته والدولة وقضائها جعلا التدخّل في ليبيا، المصدر الفالت ضد مصر من الغرب الشاسع، أمراً ملحّا سبق أن استشعَرَتْه القيادة المصرية ولكنّها مُنعت بوقاحة في مجلس الأمن من تنفيذه.
مصر بإجبارها على البقاء داخل حدودها السيادية يجري استنزافها اليومي لأن ذلك يعني إرغامها على التعامل "التقني" مع المسألة الأمنية أي تحويل الجيش المصري إلى قوات بوليس لاهثة أمام ووراء إرهابيّين نعرف جميعا أنهم يستمدّون قوتهم والجزء الكبير من عناصرهم مباشرة من الخارج.
لا بد لمصر أن تتبنى الآن النظرية "الإسرائيليّة" في الدفاع عن الأمن الداخلي خارج الحدود. لكنْ شتّان ما بين المشروعية الأخلاقية والسياسية للحاجة الدفاعية المصرية للتدخل الخارجي إذا تحقّقت وبين الوقاحة العدوانية الإسرائيلية التي أجازت لنفسها مرارا تحت حجة هذه النظرية أن تضرب من تونس إلى العراق واليوم مرورا بسوريا!
مصر إذا تبنّت النظرية الإسرائيليّة، فهو تبنٍ سيكون كامل المشروعية لأنه دفاع ضروريٌ عن خطر ملموس ويومي وكبير على الداخل حيث يحوِّل الخارج الليبي أساساً، وغيره طبعا، هذا الداخل ولا سيما سيناء إلى معقل قتالي ضد الدولة والجيش والمجتمع.
هناك وضع في المنطقة غير مألوف لا يمكن معه أن تستمر مصر في سياسة الانكفاء الداخلي حتى الأمني.
أولاً لأنه حاليا تُخاض عليها حرب من الخارج وهي لا تزال تتبنّى نظرية الانكفاء على الداخل التي كرّسها عهد الرئيس أنور السادات ولا سيما بعد انخراطه في العملية السلمية مع إسرائيل وكرد فعل على سياسة "تصدير التغيير" التي انتهجها الرئيس جمال عبد الناصر وتبنّى هذا الانكفاءَ الساداتي عهدُ الرئيس حسني مبارك. لكن الفارق أن عبد الناصر كان صاحب مشروع تغييري هو الذي "يتحرّش" بالمحيط دولاً وأنظمةً ونخبا ومجتمعاتٍ في ظل ديناميكية ثورية انتهى أوانها الآن. أما المرحلة الحالية، مرحلة السيسي، فهي مختلفة تماما لأن مصر هي في موقع الدفاع الوجودي عن النفس وخروجها إلى خارج حدودها عملية دفاعية ومشروعة صرفة مختلفة عن الامبريالية الإسرائيلية والثورية الناصرية.
مصر حُكِمت دائما من قوى عسكرية أو ذات أصول عسكرية ولكن أنظمتها هذه استندت دائما أيضاً على ثقافة سلميّة شعبية تأتي من التكوين العميق للشعب المصري.
المهم أن القاهرة لا تستطيع الاستمرار في عنق زجاجة هذا المأزق: الذهاب إلى ليبيا أمر لا غنى عنه. وربما إلى غير ليبيا. مراجعة عميقة للسياسة الخارجية المصرية ضرورية جدا.
المصريون في الأدبيات العربية الحديثة هم الذين أطلقوا أولا تعابير  من نوع "الأمن الغذائي" و"الأمن المائي" فكيف حين يتعلّق الأمر بأمنهم الوجودي، وأنا أقول مع كثيرين "أمننا" الوجودي.


[email protected]
Twitter: @ j_elzein

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم