الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

الديون المرتفعة كمسبب للإرهاب

المصدر: "النهار"
لويس حبيقة-خبير اقتصادي
الديون المرتفعة كمسبب للإرهاب
الديون المرتفعة كمسبب للإرهاب
A+ A-

يتفشى الإرهاب والعنف عالميا في كل القارات. وهنالك تفسيرات عديدة لهذه الظاهرة المتجددة، لكن الأمر المؤكد والمشترك هو ما ينتج عنها أي القتل والدمار والموت والفقر. يرتفع الإرهاب بالتزامن مع تردّي الأوضاع الاقتصادية بما فيها ارتفاع البطالة والديون العامة. وهنالك مقولة اقتصادية قديمة تشير الى أن النمو مفيد للانسان والمجتمع وكلما ارتفع، توزعت المنافع بشكل أفضل على جميع المواطنين. تشير الأرقام القديمة كما الجديدة الى أن العديد من الدول حقق نموا كبيرا متواصلا، الا أن هذا لم ينعكس على المواطنين بالدرجة نفسها، بل تضرر منه بعضهم أحيانا. هنالك اجماع اليوم حول الفوائد الاقتصادية للعولمة ولانفتاح الاقتصادات كما لتحرير الأسواق، انما هنالك خوف أيضا من توسع فجوتي الدخل والثروة وبالتالي من نتائجهما على الاستقرارين الاجتماعي والأمني.


أكثرية الدول النامية والناشئة اقترضت لتموّل استثماراتها وتحقّق النمو. تحقّق بعضه أحيانا ولم يتحقق مرات أخرى، بسبب سؤ التنفيذ والفساد كما بسبب اختيار المسؤولين لمشاريع غير فضلى وغير مدروسة بل مربحة لجيوبهم. الحقيقة أن المقرضين والمنفّذين للمشاريع، أتى معظمهم من الدول الصناعية، واستفاد أكثر من مواطني الدول النامية والناشئة. وهكذا ساهمت قروض الدول النامية والناشئة في تعزيز الاقتصادات الغربية، وفي زيادة ربحية الشركات المنفذة، وزيادة ثروات أصحابها، كما في زيادة ثروات أصحاب القرار في الدول المستقبلة للاستثمارات. هنالك حقيقة محزنة هي أن مواطني الدول النامية والناشئة حصلوا على الديون التي أفادت دولا أخرى معظمها غربية كما مجموعات صغيرة داخلها.
ارتفاع الاستدانة يعني أن موازنات الدول النامية والناشئة أصبحت غير صحّية ومثقلة بخدمة الدين العام، وبالتالي تحرم الشعوب من فرص الانفاق على الصحة والتعليم والغذاء والبنية التحتية الضرورية لتطوير الاقتصادات. هنالك مشكلة تكمن في محدودية أهداف هذه القروض، بما فيها قروض التنمية، التي تنظر فقط الى الجانب المالي دون النظر الى انعكاسها على الاجتماع والأمن والاستقرار. الاقتصاديان المعروفان "جو ستيغليتز" و"وليام ايسترلي" أشارا مراراً الى هذا الخلل، وكان نصيبهما الخروج من المؤسسات الدولية التي كانا يعملان فيها. وما تقوم به مؤسسات الاقراض الدولية أيضا هي التوقعات المتفائلة التي تشجّع الدول النامية والناشئة على الاقتراض. نتعجب في لبنان مثلا وفي أسواء الظروف التي نعيش فيها أن تقوم المؤسسات الدولية بتوقع نسب نمو مرتفعة للسنوات المقبلة، علماً أن الاستثمارات غائبة والأوضاع الادارية والحكومية في أسواء حال. اصدار توقعات متفائلة يعطي أملا في المستقبل وهذا جيد، الا انه في الوقت نفسه يشجع الحكومات على التهور والمبالغة في الاقتراض لتمويل مشاريع وسياسات وقطاعات مكلفة وغير مجدية.


توقعات أخرى
هناك توقعات أخرى تُبنى على مشاريع نظرية اذا نفِّذت، تحقق النمو القوي. وما هي النتيجة؟ قيام الحكومات بالاقتراض لتنفيذ هذه المشاريع التي لا تلبي أحيانا حاجات الدول المقترضة بل مصالح ضيقة، مما يساهم في رفع مستوى الدين العام والارتباط بالخارج أكثر فأكثر. هنالك حقيقة تميّز استعمار اليوم عن السابق. ففي القرون الماضية، بنيت الامبراطوريات عبر الحروب والاحتلالات من قبل الدول الغنية تجاه الضعيفة والفقيرة. أما اليوم فتبنى عبر الاقتصاد والديون، لكن النتيجة الحقيقية واحدة أي الارتهان للمموِّل أو عمليا للمستعمر، وان يكن بأشكال مختلفة. في الحقيقة أيضا أن الحرب الباردة لم تنته بالعسكر والقتال، انما بالاقتصاد حيث استُنْزِف الاتحاد السوفياتي ماليًّا واقتصاديًّا فتفكك وانهار، مما فرض انضمام الدول التي كانت تشكّله، بالاضافة الى دول الجوار، الى مؤسسات الاقتصاد الغربي. هنالك واقع آخر مشابه وهو أن ما يجري مع روسيا اليوم من عقوبات يهدف الى اضعاف الاقتصاد، وبالتالي يتحقق الخضوع الاقتصادي المؤثر بشكل كبير على السياسة. نحن لا ننكر أن الحالة الايرانية مشابهة أيضا، وان يكن التأثير الايراني اقليميًّا أكثر منه دوليًّا، اذا ما قارناه مع الواقع الروسي.
يقول "جون بركينز" في كتابه الذي يلخّص، سيرته ويسرد فيه اعترافاته وتجاربه القيّمة، أن في الاكوادور مثلاً ومن كل 100 دولار تجنيها الدولة من بيع النفط يذهب 3% فقط الى الانماء والفقراء. خلال 3 عقود، ارتفعت نسبة الفقراء من 50% الى 70% كما نسبة البطالة من 15% الى 70% والدين العام من 240 مليون دولار الى 16 مليار دولار وانخفضت نسبة الموازنة التي تتوجّه نحو الفقراء من 20% الى 6%. نصف موازنة الاكوادور تذهب لخدمة الدين العام بدل أن تعالج مشاكل المواطن والفقير بشكل خاص. هذا يعني أن العنف يتغذى من هذه السياسات المالية التي تبقى الحكومات المسؤولة الأولى عنها.
ان الدول المقترضة تبقى أسيرة الدول المقرضة، وهذا ما يتجلى اليوم في الصراع العالمي حول اليونان. وما يدعو للعجب هو أن دولة صغيرة كاليونان تشغل العالم من ناحيتَي ديونها ومستقبلها، اذ يريد المقرضون أن تكون تجربتها عبرة لمن اعتبر. اقراض الدول النامية والناشئة بأموال كبيرة يعني عمليا تسليم قراراتها الوطنية لسنوات وربما لعقود للمقرضين من مؤسسات ودول ومصارف وصناديق. ضمن هذا المنطق، كلما ارتفعت الديون كلما زاد الارتهان للخارج وكلما استفادت المؤسسات المقرضة بالتعاون مع شركاء الداخل الذين يبذلون كل الجهد للاستمرار في الاستفادة من الوضع السيئ. هنالك أيضا تمويل في الداخل يحصل من قبل المستفيدين من القروض لمؤسسات التعليم والمؤسسات الدينية والخيرية للحصول على تأييدها وتبييض صورتها لهدف الاستمرار في جني الأرباح الكبيرة.
تهدف القروض الخارجية في رأي المعارضين الى المس بالبيئة والغابات والمناطق الريفية والزراعية، وبالتالي الى تشويه الدول النامية والناشئة في سبيل جني الأرباح الكبيرة. ما الذي ينتج عن هذه الممارسات غير الرفض والعنف والشعور بالغبن الذي يولد النقمة والاعتراض وربما الإرهاب والتطرف. يقول "بركينز" أن من يقاوم المشاريع الخارجية والقروض التي ترافقها يهزم. يروي قصة كولومبيا التي رفضت إنشاء قناة داخل أراضيها. فقسمت في سنة 1903 الى دولتين واحدة هي كولومبيا الحالية والثانية باناما التي قبلت بإنشاء القناة. قُسِّمت بالقوة عندما أرسل الرئيس روزفلت الباخرة الحربية "ناشفيل" وفرض التقسيم. ولا بد هنا من الاشارة الى هويات من ترأسوا أهم مصرف تنمية في العالم أي البنك الدولي، حيث ليس للخبرة في الموضوع أهمية كبرى. مثلا "روبرت ماكنمارا" الذي كان رئيسًا لشركة "فورد" للسيارات ثم وزيرا للدفاع، ثم عين رئيسا للبنك الدولي. ومن اللاحقين، "باربر كونابل" الذي كان عضوا في مجلس النواب الأميركي و"بول وولفوفيتز" الذي كان نائبا لوزير الدفاع وغيرهم. المعيار الواضح هو قدرة رئيس البنك المعيّن عمليا من قبل رئيس الولايات المتحدة على حماية مصالح الغرب أو خاصة مصالح أميركا في عملية التنمية الدولية.
هذا لا يعني أن القروض الخارجية كلها سيئة، بل على العكس هنالك قروض تصرف في الأمكنة المناسبة وتحقق النمو والمنافع للمواطن والاقتصاد. المطلوب التنبه الى نوعية القروض وكمياتها وأهدافها بحيث لا تضر بالدول المقترضة لمصلحة المقرضين في الخارج وحلفائهم في الداخل. هنا تكمن أهمية وجود أشخاص نزهاء يتمتعون بالكفاءة والخبرة ليقودوا حكومات الدول النامية والناشئة كي لا يكونوا ضحايا الجشع الداخلي والخارجي. لا يمكن مقاومة العنف الحاصل دوليا من دون اعادة نظر في كيفية انفاق أموال التنمية بحيث يستفيد منها المواطنون العاديون والفقراء تحديدا. ولا يمكن مقاومة الإرهاب والعنف بالقوة فقط، بل بالاقتصاد والمال والتنمية.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم