السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

المتحف التدمريّ الحيّ... قتيلاً

محمود الزيباوي
المتحف التدمريّ الحيّ... قتيلاً
المتحف التدمريّ الحيّ... قتيلاً
A+ A-

دخل "تنظيم الدولة الإسلامية" مدينة تدمر، ورفع علم الخلافة فوق قلعة من قلاعها التاريخية، وبات الموقع الأثري مهدداً بالدمار. في تصريح تناقلته وسائل الإعلام، أكدت المديرة العامة للأونيسكو إيرينا بوكوفا أن هذه المدينة التاريخية هي موقع استثنائي من التراث العالمي وأن تدميرها ليس فقط جريمة حرب ولكن أيضا خسارة كبيرة للبشرية، ودعت مجلس الأمن للإشراف على عملية حماية هذه المدينة، وأضافت: "نحن بحاجة إلى مجلس الأمن وجميع القادة السياسيين والزعماء الدينيين لمنع هذا التدمير".


في خريف العام الفائت، نقلت وسائل الإعلام تقريراً عن "الجمعية الأميركية لتطوير العلوم" يؤكّد أن الصور التي التقطتها الأقمار الاصطناعية كشفت أن خمسة من المواقع الأثرية السورية الستة المسجلة لدى منظمة الأونيسكو كمواقع أثرية عالمية قد أصيبت بدمار كبير جراء الحرب الدائرة في سوريا منذ أربع سنوات، وأن الموقع الحضاري الوحيد الذي سلم من التدمير هو مدينة دمشق القديمة. تشهد هذه الصور التي التُقطت بين 2011 و2014 على هذه الكارثة الحضارية، وتظهر بشكل ملموس ضياع مبانٍ شهيرة في محافظات حلب، بصرى، حمص، وتدمر. خلال هذه الفترة، تعرضت بعض معالم تدمر الأثرية للضرر، أبرزها المسرح الروماني الذي طاله الخراب "جراء القصف المدفعي ونشاط القنّاصة، علاوة على استخدام هذه المواقع كقواعد لإطلاق الصواريخ ومرابض للدروع"، كما يشير التقرير المرافق لهذه الصور. اليوم، سيطرت قوى "داعش" على تدمر، واتجهت انظار العالم إلى المدينة الأثرية التي أضحت مهدّدة بالضياع.


مدينة نبي الله سليمان
اشتهرت تدمر بأطلالها وآثارها منذ القدم، كما تشهد كتب التراث. هي بحسب تعريف ياقوت الحموي، "مدينة قديمة مشهورة في برية الشام"، "زعم قوم أنها مما بَنته الجنّ لسليمان عليه السلام ونعم الشاهد على ذلك، قول الذبياني:
إلا سليمان إذ قال الإلهُ له/ قُم في البرية فاحددها عن الفَنَد
وجَيش الجن إني قد أمرتُهُمُ/ يَبنون تدمر بالضُفاح والعَمَد
نقل ياقوت هذين البيتين، ثم أضاف: "وأهل تدمر يزعمون أن ذلك البناء قبل سليمان بن داود عليه السلام بأكثر مما بيننا وبين سليمان، ولكن الناس إذا رأوا بناءً عجيباً جهلوا بانيه أضافوه إلى سليمان وإلى الجن". الكلام هنا في الواقع هو للجاحظ في "الحيوان"، ونصّه: "ولكنّكم إذا رأيتمْ بنياناً عجيباً، وجهلتم موضع الحِيلة فيه، أضفْتُموه إلى الجنّ، ولم تعانوه بالفكر".
على رغم هذا التوضيح، ظلت تدمر في المخيلة الجماعية "مما بَنته الجنّ لسليمان"، ونسج أهل الأخبار حولها قصصاً مليئة بالعجائب والغرائب. في نهاية العصر العباسي، ذكر القزويني هذه المدينة في "آثار البلاد وأخبار العباد"، وقال إن "أبنيتها من أعجب الأبنية، موضوعة على العمد الرخام"، ونقل شعر النابغة الذبياني فيها، وأضاف: "وبها تصاوير كثيرة، منها صورة جاريتين من حجارة نمق الصانع في تصويرهما، مر بهما أوس بن ثعلبة فقال:
فتاتي أهل تدمر خبّراني/ ألمّا تسأما طول المقام
قيامكما على غير الحشايا/ على حبلٍ أصمّ من الرّخام
فكم قد مرّ من عدد اللّيالي/ لعصركما وعام بعد عام
وإنّكما على مرّ اللّيالي/ لأبقى من فروع ابني شمام.
في العصر المملوكي، قال ابن بطوطة بعد خروجه من السخنة وهو في طريق عودته إلى طنجة: "ثم سافرنا إلى تدمر، مدينة نبي الله سليمان عليه السلام، التي بنتها له الجن، كما قال النابغة". كذلك، ذكر ابن سعيد المغربي تدمر في "الجغرافيا"، وقال: "هي على مرحلة منها في البرية، وبها آثار عظيمة كبيرة. ويزعم شعراء العرب أن الجنّ بناها لسليمان بن داود عليهما السلام، وبها جامع من صخرة واحدة كأنه نقرة في جبل منقطع، وقد صنع سقف ذلك الجامع منه وكل ما فيه، وهي أرض زيتون ونخيل".
تكرر هذا الوصف في "صبح الأعشى" حيث كتب القلقشندي في وصف تدمر: "من أعمال حمص من شرقيها، وغالب أرضها سباخ، وبها نخيل وزيتون، وبها آثار عظيمة أزلية من الأعمدة والصخور، ولها سور وقلعة".
تتضارب الروايات العربية حول تدمر، ويغلب عليها الطابع العجائبي. في "نهاية الأرب في فنون الأدب"، نقل النويري عن الكسائي قصة عجيبة: "أقامت بلقيس عند سليمان سبع سنين وسبعة أشهر ثم توفيت، فدفنها بمدينة تدمر من أرض الشام تحت حائط، ولم يعلم أحد بموضع قبرها إلى أيام الوليد بن عبد الملك بن مروان. قال موسى بن نصير: بعثت في أيام الوليد إلى مدينة تدمر ومعي العباس بن الوليد بن عبد الملك، فجاء مطر عظيم فانهار بعض حائط المدينة، فانكشفت عن تابوت طوله ستون ذراعاً وعرضه أربعون ذراعاً متخد حجر كالزعفران مكتوب عليه: هذا تابوت بلقيس الصالحة أسلمت لثلاث عشرة ستة خلت من ملك سليمان، وتزوج بها يوم عاشوراء سنة أربع عشرة خلت من ملكه، وتوفيت يوم الاثنين من ربيع الأول سنة إحدى وعشرين مضت من ملكه، وقد دفنت ليلاً في حائط مدينة تدمر، ولم يطلع على دفنها إنس ولا جن ولا شيطان. قال: فرفعنا غطاء التابوت وإذا هي غضة كأنها دفنت ليلتها. فكتبنا بذلك إلى الوليد فأمر بتركه في مكانه، وأن يبنى عليه بالصخر والمرمر، ففعلنا ذلك".
في "الروض المعطار في خبر الأقطار"، استعاد الحميري شعر النابغة، ثم حدّد موقع تدمر: "ومن حلب إليها خمسة أيام، وكذلك من دمشق إليها، وكذا من الرقة إليها، وكذا من الرحبة إليها، ولها حصون لا ترام يسكنها فلال الناس واليهود واباق العبيد، وإليها يقصد كل قاطع سبيل وحامل نهب، ومتاجرة أهل تدمر فيه، وجبل لبنان بالقرب من هذا الموضع".
بعدها، نقل الراوي قصة بطلتها "الزباء"، وهي الملكة التي "سُمّيت بتدمر بنت حسان بن أذينة، وهي بنتها وفيها قبرها وإنما سكنها سليمان بعدها". ونقل "عن عبد الله القسري: "كنت مع مروان بن محمد فهدم ناحية من تدمر، فإذا جرن من رخام طويل، فاجتمع قوم فقلبوا عنه الطبق، وظن مروان أن فيه كنزاً، وإذا فيه امرأة على قفاها قد ألبست سبعين حلة ولها غدائر سابغة قد ردت على صدرها، وفي بعضها صفيحة ذهب مكتوب فيها: أنا تدمر بنت حسان بن أذينة الملك خرب الله بيت من خرب بيتي. فما لبثنا إلا قليلاً حتى جاء عبد الله بن علي لقتل مروان".


الحياة الأخرى
اعتمدت الروايات العربية القديمة على القصص الشفهية التي تبدأ بشكل وتتطوّر بأشكال متعددة، واعتمدت الأبحاث الحديثة على النصوص التدمرية المنقوشة والمصادر المكتوبة، كما اعتمدت على المسكوكات التي خرجت من أطلال هذا الموقع، وبات لتدمر تاريخ أدبي لا يمت إلى الحقيقة إلا بصلات واهية، وتاريخ علمي يعتمد على الشواهد التاريخية والكتابات الأصلية. في العصر الحديث، اعاد المختصون كتابة تاريخ تدمر، وحدّدوا موقعها السياسي والاجتماعي والديني في الحقبة الرومانية التي شهدت نموّها وأفولها. غاص أهل الاختصاص في كتابة هذا التاريخ، واستعرضوا نشوء تدمر ونموّها من الألف الثالث قبل الميلاد إلى القرن الميلادي السابع، وعادوا إلى سوريا القديمة بقوافلها الآرامية والعربية، وتعرفوا إلى تدمر في نشأتها وتحوّلاتها في زمن الرومان والفرس، يوم كانت ميناء الصحراء وبوابة المرور بين أمبراطوريتين عدوّتين تتقاسمان الشرق وتتحاربان على حكمه. خلف المستعمرة الرومانية، برز وجه المدينة المشرقية بتقاليدها ومعتقداتها وديانتها الخاصة.
هكذا بدت تدمر مدينة لها مقام الدولة، تنعم بالحكم الذاتي، وتتوق إلى الحرية والاستقلال، وتثور تحت حكم زنوبيا على سلطة الأمبراطور أوليانوس، فتتعرض للغزو وتخضع له، وتكمل مسيرتها وتحافظ على تقاليدها الموروثة، وذلك حتى عهد الأمبراطور البيزنطي تيودوسيوس الذي أعلن المسيحية ديناً وحيداً واحداً في كل أنحاء الأمبراطورية.
افتتن علماء الآثار بمعالم تدمر، وأخرجوا من الظلمة إلى النور قبورها الجماعية والفردية الكثيرة. كما في فنون الشرق القديم، ارتبط الفن التدمري بالدين ارتباطاً عضوياً وثيقاً، وترجمه في صوره ونقوشه رسماً ونحتاً. في تصوير الموتى كما في تصوير الآلهة، خضع الفن للدين ونهل من رؤياه لخلق الأسلوب الخاص به. بدأ التعرّف إلى المقابر التدمرية في القرن الثامن عشر، وعلى مدى قرنين من البحث والتنقيب، تم اكتشاف أكثر من مئة مدفن موزعة حول المدينة شمالاً وجنوباً وغرباً، تعود غالبيتها إلى المرحلة الممتدة من العام التاسع قبل الميلاد إلى القرن الثاني من بعده. كشف المنقبون عن كمّ هائل من الوجوه والكائنات والزخارف، والكتابات، وعمدوا إلى دراستها بشكل دقيق. جعلت تدمر من مقابرها هياكل تعلن حلول الحياة الأبدية، هذه الحياة "الأخرى" التي تعيش النفس في عالم الخلود. تجلى هذا الطابع في عشرات التماثيل التي أخرجت من أطلال تدمر، وأغلبها تماثيل جنائزية اعتمدت في الأصل كشواهد للقبور التي صُنعت لأجلها.
منذ القرن التاسع عشر، أظهر الفرنسيون اهتماماً خاصاً بالحضارة التدمرية، وعُرف منهم فيليسيان دو سولسي وبيار بيرون ولويس دو كليرك الذين أهدوا مجموعاتهم التدمرية الخاصة إلى متحف اللوفر. مع الزمن، كبرت مجموعة هذا المتحف، وضمت اثنتين وتسعين منحوتة إضافة إلى مئة وست قطع من المسكوكات والميداليات. نجد مجموعات مماثلة في كل من متاحف العالم الكبرى، غير أن أجمل المجموعات تبقى تلك المحفوظة في المدينة الأثرية التي تشكّل متحفاً حياً يقصده العامة والخاصة من الداخل والخارج. تُعرف هذه المدينة الأثرية بـ"عروس الصحراء"، وتضمّ شارعاً طويلاً محاطاً بالأعمدة يمتد لمسافة كيلومترات وهو "الشارع الأعظم"، ومسرحاً، وآغورا، وبوابة على شكل قوس نصر، ومعسكراً، ومجلساً للشيوخ، وحمامات ومعابد عديدة، أشهرها معبد بل، ومعبد نبو، ومعبد معلشمين، ومعبد اللات، ومعبد يلحمون ومناة. كما تضمّ مدافن برجية وأرضية وبيتية، أشهرها "ضريح الأخوة الثلاثة" الذي يتميز برسوم جدارية بديعة تشكل رافداً آخر من روافد الفنون التدمرية المتعددة. إلى جانب هذه المعالم، انشئ في المدينة الأثرية متحف يتكون من طبقتين يضم الكثير من المعروضات والكنوز الأثرية المهمة، وحديقة خارجية تتوزع فيها مجموعة أخرى من القطع الأثرية والمنحوتات التدمرية.


القلق العميق
عُرفت تدمر بآثارها العظيمة الأزلية من الأعمدة والصخور، كما كتب القلقشندي، وصمدت آثارها على مدى قرون من الزمن، وها هي اليوم معرضة للخراب والدمار. يتساءل العالم اليوم: هل يشرع مسلّحو "داعش" المتشددون في تدمير المعالم والمباني الأثرية التي ترجع إلى العهد الروماني في المدينة، كما فعلوا في مدن تاريخية أخرى استولوا عليها في العراق المجاور؟ في انتظار ما ستؤول عليه الأحوال، دعت المديرة العامة للأونيسكو، إيرينا بوكوفا، إلى إنهاء الأعمال العدائية في تدمر فوراً عقب ورود تقارير عن دخول مسلحي "تنظيم الدولة" إلى موقع التراث العالمي، وقالت: "أشعر بقلق عميق إزاء الوضع في موقع تدمر. يشكل القتال خطراً على أحد أهم المواقع في الشرق الأوسط وعلى سكانه المدنيين".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم