الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

أن ننتظر ما سيحدث لتدمُر...

المصدر: "النهار"
رلى راشد
أن ننتظر ما سيحدث لتدمُر...
أن ننتظر ما سيحدث لتدمُر...
A+ A-

من المريب أن ينتظر المرء ما سيحدث لتدمُر كمن يتهيأ لبدء الإستعراض. ليس عاديا أن نرقب مكتوفي الأيادي ما ستؤول إليه آلة إقصاء فكريّة، في نسختها البربرية الحديثة، متسائلين إذا كانت سترأف بالتاريخ في المحصلة أو ستُنزل به عقوبة من صنف تلك التي سادت في زمن محاكم التفتيش. لسنا للمفارقة في العصور الظلاميّة وإنما في زمن يتموضعُ كرونولوجياً في القرن الحادي والعشرين، حيث يدفع بنا لكي نصير مشاهدين سلبيين يجري سحبهم عنوةً، خارج حلقة الضوء، إلى حيث يقيم أسياد الظلمة.


كنا نكتب عن موت الرواية وعن أفول الشعر وننظّر في تقدّم صنف أدبي على آخر، وصرنا نتكلم على تهلكة التاريخ ومحو الجغرافيا والأسطرة الدموية. يشكّل ما نشاهده ونسمعه في الشهور القليلة المنصرمة، عراقيا وسوريا ولبنانيا أيضا - وإن بدرجات أقلّ – تنويعا على الرعب الصافي الذي يستثمر التعاطف الإنساني التلقائي ويسعى إلى إحداث صدمة تخلّف التقزز والإشمئزاز. يريد أن يبثّ الخشية وأن يؤرق النفوس.
تكاد حكاية تدمر الأثرية التي كُتبت في الأيام القليلة الماضية، تختصر بأربع حركات: دخول إلى متحف المدينة الأثرية وتدمير للمجسمات الحديثة وتموضع للحراس عند الأبواب ورفع للراية السوداء فوق القلعة الإسلامية. هناك تدنيس للتاريخ واعتداء على الحاضر وصوغ قسري للمستقبل. إنها الحرب بفصول أربعة.
لا يكتمل الإنتصار النفساني سوى عبر أداتين: الترويج والمشهدية العالية، وحين يضاف إليهما الترويع، يصير المتلقي أكثر هشاشة. تصلنا من تدمر أخبار عن تصفيات جماعية لنساء وأطفال لتتحول المدينة في برهة من مكان رمزي إلى الرمزية الخالصة. يصلُ العمل المختلّ إلى الذروة، في حضرة المتفرّجين. يُلبس ثوبا يفصله على قياسه، يطمح إلى كرنفال عنفي، ويجري كل هذا بينما يسأل العالم إذا كانت تدمُر ستلتحق بالموصل، وإذا وإذا...
تَدمُر حلقةٌ في عقد هو ملك لحضارة العالم وثمة خوف اليوم من أن تجري مصادرته. يحوم التهديد حول قطعة من الإرث الإنساني بعدما تخطى ما يجري من حولنا الكوابيس الأكثر قتامة.



يسود الإعتقاد انه يجري القضاء على التاريخ بدفع من الجهل، بينما يقوم في الأساس على رغبة واعية في محو الذاكرة الجماعيّة والتاريخ أي بتعبير آخر في إلغاء هويّات الشعوب لتحلّ مكانها نماذج أخرى بلا جذور.
يقول الروائي الفرنسي اندريه مالرو في مقابلة إذاعيّة مع جاك شانسيل في منتصف سبعينات القرن العشرين انه يظنّنا نعيش نهاية العالم، ليستشرف في هذا السياق تغييرا هائلا سيحلّ بعد خمسة عقود، أو ربما بعد قرن. لا ندري على وجه التحديد إذا كان العصر الذي تحدّث عنه مالرو بدأ فعلا وإذا كان ما نعيشه اليوم إحدى نسخه فحسب، غير ان الإشارة إلى النهايات صارت كأنها بداهة. ثمة من جهة تقنيات حديثة عابرة للجغرافيا والزمن، وثمة من جهة أخرى ناس يدفعون بنا لنقيم في بُعد ثالث يدين منطق التطور إنسانياً ويعلي من شأن الهمجية الخالصة.



نسأل هل يعقل أن يبلغ المرء هذا الدرك؟ نعثر على نسق إجابة عند البير كامو الذي تمهّل في دفاتره عند أمبراطور مستبدّ بهوية "كاليغولا" وكان خصص له عملا مسرحياً. كتب في شأنه: "كلا. كاليغولا لم يمت. انه هنا، وهناك. هو في كل واحد مِنّا".



ليست تدمر والموصل إسمين نابعين من فراغ وليستا كومة حجارة تستريح فوق أرض عربية. تقدّم المدينتان ومدننا العربية الأخرى أيضا، شهادة ناصعة على اننا لسنا لقطاء.


 


[email protected]
Twitter: @Roula_Rached77


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم