الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

لم أعد أريد رئيساً للجمهورية

عقل العويط
عقل العويط
A+ A-

في الخامس والعشرين من أيار 2008 بدأت ولاية العماد ميشال سليمان في رئاسة الجمهورية اللبنانية. في الخامس والعشرين من أيار 2014، انتهت ولايته الرئاسية، من دون أن يتمكن مجلس النواب من انتخاب خلف له. في الخامس والعشرين من أيار 2015، هذا، نحتفل بالذكرى السنوية الأولى لشغور منصب الرئاسة. هنا في "الملحق"، نحتفل على طريقتنا في المناسبة، "تكريماً" لـ"الدمى" التي تجتهد أيّما اجتهاد، للالتحاق بقوافل القتل اللبنانية، العربية، والإسلامية، وصولاً إلى تحقيق "الخراب المنشود"، على قول صديقنا الكبير أحمد بيضون. لكنْ، أَمَا كان ليكون أجدى لو أن الخامس والعشرين من أيار ظلّ مناسبةً وطنيةً مفردة للاحتفال بطرد العدوّ الصهيوني من أرضنا، بدل أن تكون هذه المناسبة ملطّخة بدم الرئاسة؟!


فلنتكلم بهدوء. أعني بعيداً من المهاترات والدم الحامي. ها قد مضى عامٌ كامل على الجمهورية، من دون أن يكون لها رئيس، ومن دون أن تنقلب السماء على الأرض. الحال هذه، لماذا نقيم القيامة ولا نقعدها من أجل انتخاب رئيس؟ لقد أثبتت التجربة أننا يمكننا أن نمشّي الحال من دون رئيس. صحيحٌ أن المسيحيين يخبطون بقبضاتهم الرخوة على الطاولة المنخورة والمشلّعة، مطالبين بتطبيق الميثاقية، واحترام الدستور، لكنها ليست المرة الأولى تُخترَق عندنا هذه الميثاقية، ويُنتهَك هذا الدستور. فأين العجب في عدم انتخاب رئيس؟! صدِّقوني، الحياة بألف خير. الكهرباء اذا انقطعت، نمشّيها بالمولّدات. الماء، إذا هجر القساطل، نملأ خزّاناتنا بمياه الصهاريج. مزروعاتنا ومحاصيلنا من الخضر والفاكهة والحبوب، نرويها بمياه المجارير. هواؤنا وبحرنا، صارا مرتعاً للتلوّث المطلق. لهذه الأسباب بالذات، مناعتنا منيعة لا يهتزّ لها أساس ولا كيان. ثمّ، قانون السير مطبّق بالحذافير تقريباً. الجميع يضعون حزام الأمان، أو ما يشبهه. الجميع يقفون احتراماً للإشارة الحمراء. كثرةٌ متذاكية تستخدم الـ"واتس آب" بطريقة لا يراها الشرطي. قلة كبيرة تخترق حدود السرعة. تفاصيل بسيطة. ثمّ، ها هو مجلس الوزراء ينعقد بانتظام. مثل الساعة. يتخذ القرارات ويُصدر المراسيم. قد يتوجس البعض من أن هذا المجلس سينفرط عقده، ويرى أن الأسباب كثيرة للانفراط، ليس أقلّها أن بعض مَن فيه لم يعد يستطيب استمراره. بسيطة أيضاً. المسألة سهلة للغاية، إذ سبق لنا أن عشنا تجارب مماثلة، عندما لم تعد حكوماتنا تجتمع، لكننا بقينا نوقّع المراسيم، التي سُمِّيت في يوم من الأيام، "المراسيم الجوّالة". كم كانت حلوة تلك التسمية! صحيح أن مجلس النواب لا يجتمع، ولا يشرّع، لكن معليش. ليس ثمّة حاجة ملحّة إلى هذا النوع من الاجتماعات. أعرف أن التشريع ضروري في الحياة الديموقراطية، لكن الحياة عندنا ليست ديموقراطية إلاّ بنسبة واحد تقريباً في المئة، فأين المشكلة في غياب التشريع. أعرف أيضاً أن المهل الدستورية ستنقضي مجدداً. فلتنقضِ هذه المهل. عندنا سابقات كثيرات. ويمكننا أن نفعلها مرةً أخرى عند اللزوم. رئيس المجلس يستمر في منصبه بالدهاء المعروف، وبقوة الاستمرار (أو يستقيل. ليش لأ!). معه تستمر هيئة المجلس، والنواب. السفراء أيضاً وأيضاً. الموازنة...؟ بسيطة. نطبّق القاعدة الإثني عشرية، من دون اجتماعات. ثمّ نطبِّقها مجدداً، وإن كان تطبيقها مقيّداً بظروف وبقوانين محددة. شو في بعد؟ تعيين قائد للجيش؟ بسيطة للغاية. نستطيع أن ننتظر. مجلس القيادة يحلّ محلّه موقتاً، ما دامت الأمور شورى وبالتوافق.
أنا لا أمزح. ففي ظروفٍ كهذه، يكون المزاح ثقيلاً ويقع في غير موقعه. لهذا السبب بالذات، أتكلم بجدية فائقة للغاية. لا يجوز أن نحمل السلّم بالعرض. ينبغي لنا أن نتعظ بالتجارب والمحن والأيام الصعبة التي عشناها. إمرار الوقت هو عين الصواب. الفرجة أيضاً. فلنُمِرّ الوقت. ولنتفرّج. ولنضحك. ولنقهقه أيضاً. لقد قيل، أيها الأحباب، إن شرّ البلّية ما يضحك. مش مظبوط. أنا أقول لكم إن شرّ البلية ما يُخرج الإنسان على طوره، ويُفقده أعصابه ورويّته. فلا تخرجوا على أطواركم. ولا تفقدوا أعصابكم ورويّتكم. ضعوا أيديكم في مياه باردة. ورؤوسكم في الثلاّجات. شاهِدوا برامج التسلية على التلفزيون. مباريات الفوتبول وكرة السلة والتنس. اشربوا المشروبات المثيرة التي تبعث على النشوة. ألا يكفي ما تبتلعونه من حبوب مهدِّئة للأعصاب؟! روِّقوها ترق. هوِّنوها تهن.
أنا لا أمزح أيها القرّاء. قلّة حياء أن يمزح المرء في أوقات كهذه. لذا، أنصح لكم بالآتي: لا تفكّروا في الرئاسة، أو في غيرها. لا تعتلّوا همّاً. لا تستمعوا إلى آراء رجال السياسة. وخصوصاً على سبيل المثل، في قضية المتهم زوراً بالخيانة العظمى، المنزوعة منه ظلماً وبهتاناً حقوقه المدنية، الأستاذ ميشال سماحة. إذا كنتم تريدون رأيي في هذه المسألة، فقد كنتُ أتوقع له البراءة الكاملة. ثمّ، هذا الرصاص الذي أُطلق ليلة السبت الفائت في الضاحية وضواحيها، تكريماً للسيّد، ولإطلالته، لا تعيروه أيّ أهمية استثنائية. هو من طبيعة الحال، ومن حواضر البيت الجمهوري السعيد. لذا، دعوا الأمور تجري في مجاريها. لن نستطيع أن نبلّط البحر. حاول غيرنا أن يفعل ذلك، بالكاد بلّط أمتاراً قليلة، لا تُذكر في كتاب "غينيس" للأرقام القياسية.
مرةً أخرى، أقول لكم إني لا أمزح. بل أدعوكم، بكل مسؤولية، إلى قهر مَن يقهركم، بعَصر الليمون الحامض في عينيه. شخصياً، لم أعد أريد رئيساً. ولا مجلساً للوزراء. ولا مجلساً للنوّاب. ولا قائداً للجيش. ولا مسؤولين أمنيين. ولا سفراء جدداً. ولا مديرين عامين.
فلتفرغ الجمهورية الفراغ كلّه. يريدون مؤتمراً تأسيسياً؟ فليأتمروا. يريدون إنهاء هذه الجمهورية العفنة؟ فلينهوها. يريدون تأسيس كيان جديد. فلنصفّق للكيان الجديد. ما دامت الأمة العربية، ومعها الأمة الإسلامية، في أشداق العنف والتكفير والقتل والتخلف والظلامية والاستبداد والإرهاب، فلماذا لا تكون هذه الجمهورية "الضالّة" جزءاً لا يتجزأ من هذا الإلهام الجديد؟!
خذوا منّي هذه الوصفة المهيبة: لأننا في أكثريتنا دمى، مستلذّين كوننا كذلك، أنصح للبنانيين المطالبين بانتخاب رئيس، بأن يفعلوا العكس تماماً. لا شيء مثل الامتناع عن هذه المطالبة يؤدي إلى غايات الدمى المنشودة.
في المقابل، وإمعاناً في لعبة الدمى هذه، أنصح للبنانيين الممتنعين عن انتخاب رئيس، بأن يفعلوا، هم أيضاً، العكس تماماً. لا شيء مثل تأييد انتخاب الرئيس يؤدي إلى الغاية المنشودة.
فلتأخذ لعبة الدمى مجراها. وسيتحقق للفريقين ما يشتهيه كلٌّ منهما. لا تسألوني أيّ منطقٍ أحتكم إليه لتبرير هاتين النصيحتين. الرؤيا التي تلحّ عليَّ في الليل والنهار، تدعوني إلى إخطاركم بفحواها.
أما الثالثون الذين لا حول لهم ولا قوة، ومنهم الشعراء، الكتّاب، المثقفون، الحالمون، الاستقلاليون، الديموقراطيون، العلمانيون، المدنيون، اليساريون، الأحرار، فليواصلوا كفاحاتهم واجتهاداتهم. إنها لن تذهب إهداراً، وإن بعد أعمار كثيرة. لهؤلاء زمنهم الأكيد، وسيأتي، لكنْ لا بدّ، قَبْلاً، من الخراب العميم.
تقبّلوا مني هذه الساديّة المتوحشة، التي هي مزيجٌ مهلكٌ من تبكيت الذات والرغبة في "الانتقام": أمنيتي الدفينة في الوقت الراهن، أن تنهار مقوّمات الدولة، كلّ مقوّمات الدولة، والمؤسسات جميعاً، وأن تشغر المناصب كلّها، التشريعية والتنفيذية والقضائية والأمنية، لتكون حال لبنان كحال مَن يقيم خارج الجاذبية، أو كمَن لا وجود له.
لن ينتهي عصر الدمى، وهو نفسه عصر الغالبية الساحقة من أهل هذه الطبقة السياسية، إلاّ بالخراب العميم. هذا هو الحلّ الوحيد. وهو نفسه "الخراب المنشود" الذي تحدث عنه كبيرٌ من كبارنا، الأستاذ أحمد بيضون، حين اعتبر أن هذا هو المصير الذي تعدنا به الجماعات التي تتحكم بلبنان. فإذا كان لا مفرّ من عبور الجحيم، فلنعبره بعيونٍ مبحلقة، وعقولٍ مفرّغة، وغرائز مستفحلة، ومن دون أوهام؛ متيقنين من أننا نهرول نزولاً، على طريقة السقوط الحرّ، إلى قعر الجحيم.
لن يكون ثمّة خروجٌ من المأزق الراهن، إلاّ بإيصال البلاد إلى الشغور المطلق. الدولة الفاشلة، أو المارقة، هي الحلّ. دون ذلك، سنظلّ نراوح صعوداً ونزولاً، وسننتظر طويلاً وطويلاً جداً الحلول الممسوخة الآتية من الخارج، تبعاً للمعطيات والظروف الموضوعية التي ستغلّب حلاًّ على سواه. ولن يكون هذا الحلّ، أياً كان، في صالح أحد، ولا في صالح لبنان.
لا بسبب اليأس، ولا بسبب الانفعال، أطالب بهذا الحلّ "الأرعن"، وهو الشغور المطلق، بل فقط لأنه لم يعد ثمّة مجال لترقيع الحال بهؤلاء. وأيضاً من أجل التأديب.
هذا النظام السياسي المتخلّف جداً جداً جداً، لا نستحقّه. هو مليء طبعاً وأكيداً بالعيوب، لكننا – على عيوبه - لا نستحقّه. ثمّ إن هذه الطبقة السياسية تحتاج إلى التأديب. لا أكاد أستثني منها أحداً (مفضِّلاً بالطبع الكحل على العمى والعماء)، وإنْ كنتُ أتلذذ بشكل خاص، بتأديب أولئك الذين لا ينجرح لهم وجدان بسبب ما آلت إليه حال لبنان واللبنانيين.
القرّاء يحبّون أن أدلّ على هؤلاء بالأسماء. معهم حقّ، القرّاء. لكني ضجرتُ من الأسماء ومن أصحابها. أكثر من الضجر، أشعر بالتقزز والاحتقار، من جرّاء ذلك، وأهمّ بالتقيؤ!
كنتُ لأفضّل مليون مرة، أن أقنع المسيحيين بالتخلّي عن حقارة اللهاث وراء السلطة، وخصوصاً سلطة الرئاسة الأولى (لكونهم معنيين بها وفق التوافقات الميثاقية والتقاسمات الدستورية الطائفية)، للانصراف إلى الحفر عميقاً في الأرض، وفي الفضاء، وفي غابة الحلم، للمساهمة الجوهرية والحاسمة في تشييد عمارة لبنان الثقافي، من جديد، وللتمكن من ترسيخ صناعة الثقافة، ثقافة الحرية، بدل انصرافهم إلى الولوغ في هذا المستنقع، الذي لم يعد يليق بالحرية، ولا بأهلها.
وإذا كان الصراع السنّي – الشيعي المخجل يجعل لبنان وليمةً لأنذال الدهر، ويجعل المسيحيين حاشيةً هنا وهناك في هذا الصراع، فليس أمام الثالثين - وهذا المنبر هو لهم – سوى الذهاب بالحلم، حلم كسر الطاغوت - إلى حيث يُحتمَل أن يتفجّر الضوء.
أنا لا أمزح، أيها القرّاء. أنا مقهور فحسب، شأن المقهورين – وهم كُثُرٌ في هذه البلاد – الذين لن ييأسوا مهما طال العذاب! تذكّروا فحسب أن ثقافة الحرية هي وحدها ستربح في النهاية. الأحرار، بطبيعة الحال، سيربحون!


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم