الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

القهوة التركية والتراث والسمعة

مهى البيضاوي- أخصائية السلامة الغذائية- كاليفورنيا
القهوة التركية والتراث والسمعة
القهوة التركية والتراث والسمعة
A+ A-

شكراً تركيا.
لا، انا لا أشكر تركيا لإستقبالها مئات الألاف من المهجرين وليس لأي موقف سياسي او دعم اجتماعي أو اقتصادي ترك أثره في منطقة الشرق الأوسط. أقول شكرًا تركيا لأنها تعمل بجهد لإبراز نفسها على الخارطة الثقافية العالمية وتهتم بالتراث وإن كانت تتشارك فيه بلاد عديدة من بلاد الشرق الأوسط، نعلم أنه لو بقي مهملا لاستحوذه بلد دخيل يبني ثقافته كمن يخيط غطاء "الكويلتس". فبرغم الجدل الدائر حول اسم القهوة المطحونة بطريقة ناعمة والتي تحضر عن طريق الغليان مع أو بدون حب الهال فإن تركيا قد حجزت مكانا مدعّماً لقهوتها ولن يكون لإسم القهوة اليونانية، أو الأرمنية أو اللبنانية أو حتى العربية أي قيمة خارج البلد ذاته ولا أي إعتبار في لغة عالمية صناعية كانت أم ثقافية.


لقد سجلت تركيا لدى منظمة اليونيسكو القهوة (أي التركية) وأدرجتها على قائمة الإرث الثقافي غير المادي وذلك عام ٢٠٠٨. على أي حال، الجدال كان محسوماً صناعياً كمعيار. فَلَو نظرنا الى آلات طحن القهوة، صناعية كانت أم حرفية، لرأينا أنها تعمل استناداً على قياس درجة الطحن: اكسترا خشن، خشن، خشونة متوسطة، طحن متوسط، طحن متوسط النعومة، طحن ناعم (مثلا يلائم الفيلتر أو درجة اسبريسو)، وأخيرا الاكسترا ناعم أي درجة القهوة التركية. وهذه الدرجات (التركية ضمناً) مدوّنة على الماكينات ومن دون تدخل اليونيسكو ربما. أما الإضافة الجدية الجديدة اللاحقة فهي البقلاوة. لما لا؟ فتركيا تُعْتبر عاصمتها. في مدينة غازي عنتاب وحدها، وبسبب قربها من أجود بساتين الفستق، يوجد اكثر من ٥٠٠ مُصٓنّّع بقلاوة يتبارزون لإنتاج الأفضل. ثم إنها هي نفسها روح المبارزة لإنتاج الأفضل التي عٰرّٰفت العالم على االكباب والكُفتة والدولما (نعم دولما وليس ورق العريش المحشي). لماذا تركيا مع العلم أن البقلاوة مصنعة في اليونان وإيران وأرمينيا والكثير من الدول العربية وأول وصفة تحضيرية للبقلاوة وجدت في كتاب طبخ عربي يعود للقرن الثالث عشر. بكل بساطة، لأن تركيا تعي القيمة التراثية لهذة المواد المحملة بالتاريخ والحضارة، لذا تستحق أن ُتحتضن وتُعٓرّف. تماماً كما فعلت أرمينيا مع خبز "اللافاش" المسجل في القائمة التراثية أما من منطقتنا فخبزنا عندما تغرب اصبح "پيتا" وهو إسم لا دخل له بالعربية مع أن الخبز الإيراني والباكستاني مثلا بقي ناناً! في ظل الصراع حول أصل إنتماء الحمص بالطحينة والفلافل والشكشوكة وحتى المقلوبة، لا يوجد أية خطوة عملية وعلمية تدعم إدعاءاتنا. إذا أخذنا مثلا زيت "الاوريغان" نجد ان طريقة استخراجه وإستعمالاته تندرج تحت شجرة الاوريغان والمعرفة التي تخصها، وكلاهما مسجل في التراث المغربي. أي أنه مهما صُنَّع خارج المغرب، سيظل مرتبطا إرتباطا وثيقاً بمنشئه. في اليابان هناك عادات وطقوس اجتماعية (واشوكو) متعلقة بإنتاج نوع معين من الأغذية مدرجة في قائمة التراث لدى اليونيسكو، المدرج أيضا وجبة الذائقة الفرنسية وهي عبارة عن إحتفالية أهم مراسيمها يتعلق بالغذاء؛ تحضيره، تقديمه، الخ. عندها نتساءل، أين المازة اللبنانية؟ أين القهوة الـ "أرابيكا" من اليمن، أين الكنافة؟ أين البابا غنوج؟ أين الكشري المصري؟ لا أثر لها. لماذا يُكنى اللبن باليوناني ونحن نعتبر غياب اللبن أو اللبنة عن موائد العشاء غيابا فادحاً وفاضحاً؟


نبحث فنجد أن الحمية المتوسطية مسجلة فعلا ولكن من كل الدول العربية المتوسطية هناك بلد عربي واحد فقط أدرجها تحت قائمة تراثه ألا وهو المغرب وهو البلد الذي يطل على المحيط الأطلسي أكثر منه على المتوسط. من لديه الإمكانات لإدراج الزجل ورياضة الصقارة والحكاية لما لا يعمل جهدا لإدراج الكثير من العادات والتقاليد الغذائية التي ننفرد بها دونا عن العالم؟ لم تلجأ تركيا لصنع أكبر فنجان قهوة بينما هي حضّرت ملفاً متكاملا لإلحاق البقلاوة برفيقتها القهوة وتركت منافسات "غينيس" لقبرص وأذربيجان، الخ.
في غياب سلطات وسياسات قوية في هذا المجال، لن نتخيّل وجود إدارات رسمية تفرض وتحمي شهادات المنشأ لمواد غذائية معروفة بتلك الخاصية ولن تستطيع ردع أي تقليد أوإقتباس ولا هي مستعدة للوقوف أمام محاكم دولية في حالة نزاع تجاري مثلا. لذا فإن الإحتماء بحاضنة تابعة للأمم المتحدة قد يكون أسهل وأقل الحلول تكلفة. كلنا نعرف ماذا حلّ بالتبولة من تغيّرات وتنوع، فاللبناني يصدم بالتبولة الفرنسية كما يصدم الايطالي بالبيتزا الاميركية، أما عن أصناف الحمص بالطحينة، فحدث ولا حرج حيث بات الحمص يعني معجوناً لونه أحمر أو أخضر أو أصفر لدرجة أنه يوجد في المتاجر الأميركية مُنْتج إسمه "حمص باذنجان". في هذا الصدام أو الثبات على التراث شيء يختلف تماماً عن مقاومة العولمة التي لا تقف ولن تقف عند حدود لا بلد ولا مطبخ، إنما هو محاولة لترسيخ الأصول واعتمادها مرجعاً وإعترافاً بمزايا الحاضنة الأصلية وإبداعاتها، وما من شيء أجمل من إنتظار ومشاهدة التطورات بينما نحتسيَ فنجاناً من القهوة التركية ترافقها قطعة من البقلاوة.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم