السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

يتيمة الدهر اللبناني

عقل العويط
عقل العويط
يتيمة الدهر اللبناني
يتيمة الدهر اللبناني
A+ A-

في العام 1907، زار الفنّان المجري الكبير تيفادار كوزتسكا شستوفاري (1853–1919) لبنان، وجال في بعض مناطقه (بعلبك والأرز...)، من ضمن سياحاته الروحية والبصرية في أنحاء مختلفة من العالم، بعدما لبّى نداءً رؤيوياً غامضاً، وأنصت إلى صوتٍ مدوٍّ في أعماقه، داعياً إياه إلى التخلّي عن مهنته الأصلية كصيدلاني، واللجوء إلى عالم الرسم، لتجسيد الرؤى التي تتفجر في دواخله، مؤمناً، وفق هذين النداء والصوت الغامضين، بأن تجربته ستكون أعمق أثراً من رسوم رافايل. استوقفته الأرزة، واستدرجته إلى عوالمها، فرسمها على طريقته، في أكثر من لوحة، مستجلياً بعضاً من مكامن شخصيتها المهيبة وروحها التعبيرية والانطباعية ومشاعرها الغامضة. من بين أعماله "اللبنانية"، اخترتُ لغلاف هذا العدد، اللوحة التي سمّاها "الأرزة المستوحدة" أو "المستوحشة"، Magányos cédrus 1907 (موجودة في المتحف الذي يحمل اسمه وتُعتبَر من أشهر أعماله على الإطلاق)، والتي أُحبّ شخصياً أن أُطلق على شجرة الأرز، من خلالها، تسمية "يتيمة الدهر اللبناني"، من وحي الشعر، ومن وحي وقائع الحياة اللبنانية الراهنة.


"يتيمة الدهر"، هي في الأصل قصيدة قديمة، وقد سُمّيت أيضاً "القصيدة القاتلة"، أو "دعد". ذلك أن قائلها، على ما تزعم الرواية، لم يجر على لسانه من الشعر سوى هذه القصيدة، التي كانت هي سبب مقتله المفجع. القصة أن أميرة يمنية بارعة الجمال، دعت الشعراء إلى التباري في مدحها ووصفها وذكر جمالها، على أن تتزوّج صاحب أجود قصيدة، فنظم هذه القصيدة شاعر يقال له دوقلة المنبجي، وبينما هو ذاهب إلى الأميرة، قابله شاعر آخر، وكانت قصيدة هذا الأخير لا تصل إلى مستوى "اليتيمة"، لا معنىً ولا حبكةً ولا لفظاً، فقتل صاحب "اليتيمة"، بعدما سمعها منه، وحفظها، ثم ذهب إلى الأميرة ليلقيها بين يديها لعلّها تكون سبباً للفوز بقلبها والزواج منها، وهو الهدف المنشود.
عندما وصل، ألقى القصيدة، فكانت المفاجأة أن الأميرة صرخت: وا بعلاه، وا بعلاه! لقد قتل هذا الرجل زوجي المرتقب! فتجمع الحرّاس وأهل الحاشية وأخذوا يتساءلون ما الخبر، فشرحت لهم أن شاعر القصيدة الفعلي هو من تهامة، وليس هذا الشاعر المزعوم. أما ترونه يقول: إن تتهمي فتهامة وطني/ أو تنجدي إن الهوى نجد
هذا في ما يتعلق بالشعر، وبأصل التسمية والقصيدة، أما عنوان المقال هنا، يتيمة الدهر اللبناني، فإنما للتعبير عن المرارة العظيمة التي تقتلني، كمواطن لبناني، وتقتل الكثيرين من أمثالي، بسبب ما فعلناه بلبنان، مرموزاً إليه بالأرزة، من تمريغ وإذلال، وبسبب تخلّي العالم كلّه عنه، واعتبار "بلاد الأرز" سلعةً في بورصة المصالح والحروب الدنيئة.
للعلم والخبر، وعلى سبيل التوضيح، يهمّني أن ألفت القرّاء إلى أنّي لستُ متيَّماً بالأرزة، على غرار بعض مُواطنيَّ اللبنانيين المنتفخين انتفاخاً مَرَضياً بذواتهم، وبتاريخهم، وبعظمتهم، والمعتبرين أنفسهم خلاصة الكائنات البشرية في المنطقة وفي العالم، وبلادهم زبدة الأزمان والبلدان. بل أحبّ الأرزة كشجرة، وأحترمها كرمز وطني. أحرص على هذا التوضيح، لئلاّ يقع اهتمامي بالأرزة في غير موقعه لدى البعض، ممّن يستهويهم الاستغراق في أوهام "العظمة" اللبنانية، المفرغة من حقائقها الفعلية ودلالاتها الموضوعية. إلى هؤلاء أقول، إنهم سببٌ من الأسباب التي تجعل "شعبنا" شعوباً وجماعات عشائرية وطائفية. يهمّني في الآن نفسه، أن ألفت الذين "يكرهون" الكينونة اللبنانية، ويحملون في أعماقهم شعوراً دفيناً حاقداً على الأرزة، إلى أن "عصبيتهم" المريضة هذه سببٌ مضادّ من الأسباب التي تجعل "شعبنا" شعوباً وجماعات عشائرية وطائفية.
الأرزة التي تتوسّط العلم اللبناني، وترمز إلى الشموخ والعزة والكرامة والتكاتف والتضامن، وتحدّي الأرزاء والأزمنة، أراها هنا في اللوحة، شجرة عادية، وحيدة، موحشة، هشّة، فقيرة، ضعيفة، ولا تشبه في شيء ما ينبغي أن تكون عليه في التقليد التشكيلي، من جبروت وكثافة وضخامة، وما يفترض أن توحي به من رسوخ وعظمة.
الرسم، في ذاته، جميلٌ للغاية، من حيث مكوّناته وأبعاده التشكيلية، بناءً وتصوّراً وألواناً وفضاءً. وهو، من حيث المقارنة بصورة الأرزة الواقعية، محرَّرٌ من عناصر الرؤية الأصلية، ومستولَدٌ من الرؤيا أكثر من الواقع، جامعاً بين التعبير والانطباع، ما يجعله فريداً في نوعه. لكني، لستُ أدري لماذا، أرى أن هذه الأرزة المرسومة ربما تومئ في جذعها المهزول العاري، إلى شجرة عادية، مسنّة، مريضة، ومتروكة إلى مصيرها. كذا أجدني أقول عن أغصانها المستضعفة وأوراقها القليلة المتهدلة. لستُ أدري ما هي الأحوال والمشاعر والأجواء والأمزجة التي حملت الرسّام المجري الكبير على رسم الأرزة هكذا. في أعمال له، أخرى، عن الأرزة، بدت شامخة وعزيزة.
لكن، مهلاً. ليس من اللزوم في شيء، أن يكون التأويل الذي أقترحه شخصياً لهذه اللوحة، هو التأويل الصحيح، أو هو التأويل الذي كان الرسّام يرغب في التعبير عنه. الأكيد أنه لم يرَ آنذاك في الأرزة، إلاّ ما خطفته إليه الرؤيا الفنية والشعرية، لا ما أراه اليوم، في هذا الرسم، تحت وطأة المآل اللبناني الخطير؛ معبَّراً عنه بانهيار المعنى الأيقوني والأسطوري للأرزة، وبعري لبنان، هذا المصلوب الأبدي، بعدما سلّمه أهله وأصدقاؤه، فضلاً عن أعدائه، إلى سرّاق الدهر "الوطني" والعربي، وزعرانه وأفّاقيه.
أراني يأخذني التأويل الرؤيوي الافتراضي أيضاً، إلى أن الرسّام ربما حدس ما سيكون عليه مصير لبنان، والمصير الرمزي لأرزته، في الأزمنة المقبلة (الراهنة)، فرسمها على هذه الحال الشعرية، المستوحدة، والمستوحشة، التي لا ترمز في أيّ حالٍ من الأحوال إلى العظمة.
الأرزة اللبنانية التي لم تكن يوماً يتيمة، ولا مريضة، تبدو في هذا الزمن اللبناني والعربي اللئيم يتيمة حقاً، بل قتيلة. وهي إذ تكافح لمواصلة الوقوف العزيز في وجه الأنواء والعواصف والأقدار، تجد أن الكثيرين من أبنائها ومريديها، في الداخل قبل الخارج، يعجزون عن ردّ غوائل الدهر عنها، بل يتواطأ بعضهم ضدّها، ويمعن في طعنها، والتربّص بها. لهذا السبب بالذات، أسمّيها يتيمة.
* * *


لا يعنيني الوعظ، ولا التمجيد الفارغ، ولا أسطرة الرموز. يعنيني فقط أننا في المهبّ الخطير من تاريخنا الوجودي، الوطني والعربي، وأننا قد لا نكون نعي، كمواطنين في "دولة لبنان الكبير"، ماذا يعني هذا المفصل الذي ليس لخطورته من مثيل منذ مئة عام تقريباً.
الأرزة، بما هي رمزٌ كياني، دولتي، قد لا يكون في إمكاننا، الآن، أن نستمرّ في اعتبارها رمزاً ارتضيناه لتجسيد وجودنا. بعضنا يوغل إيغالاً جهنمياً في التعامي عن وقائع هذه الحقيقة، فيجعل الدولة ومؤسساتها مصادَرة، وموقوفة، ومفرَّغة.
الأرزة، في لوحة الفنّان المجري الكبير تيفادار كوزتسكا شستوفاري، وحيدة، ومستوحشة. قد تفاجئنا مصالح الدول، وحساباتها، اليوم، أو غداً، فلا نعثر حتى على هذه الأرزة اليتيمة.
أيها المواطنون، الأرزة، كرمز، هي حقاً يتيمة هذا الدهر اللبناني العاهر. فلا تتركوها وحيدةً، لئلاّ يأتي السارقون، ونحن غافلون عن السهر في هذا الليل العربي العصيب. لا تتركوها يتيمة، لئلاّ نصبح بلا وطن، و... بلا رموز!


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم