الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

غابو الكائن المتفوّق في وثائقي نادر

المصدر: "النهار"
رلى راشد
غابو الكائن المتفوّق في وثائقي نادر
غابو الكائن المتفوّق في وثائقي نادر
A+ A-

في مستهلّ الوثائقي تجوب المكان كاميرا جوّالة. تتراءى عينُ الماكينة معُلّقة في المنطقة الفاصلة بين سطح مياه النهر الجارية وبين السماء المنقوشة بالغيوم. أما اليابسة فبعيدة، شريط أخضر في الخلفية، هامشٌ فحسب.


اللحظة مؤاتية للتأويل كما يحصل في نص أدبي وكما حصل في جميع نصوص الكاتب الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز. لقد جعل الفساحة شغله الشاغل، وعلى ما يظهر، فإن الوثائقي الذي يتذكّر العام الأول على رحيله، يشي – من طريق مقدمة تصويرية مفتوحة على جميع التفسيرات - بمحاولة لتقليد الكتابة.
أخرج البريطاني جاستن ويبستر الوثائقي اللافت وعرَضته محطة "كانال بلوس" الفرنسيّة قبل يومين فحسب من الذكرى السنوية الأولى لغياب الكاتب في السابع عشر من نيسان 2014 وهو يأتي بمقاربة تشكيلية وأدبيّة على السواء. لا يمكن تاليا أن لا يحيلنا المشهد المائي الآنف ذكره، على اللحظة الختاميّة في رواية غارثيا ماركيز "حبّ في زمن الكوليرا"، حيث تستبيح سفينة بخاريّة مياه نهر ماغدالينا يُمنة ويسرة، حاملة على متنها عاشقين يرفضان الرجوع إلى اليابسة.
في مقابلة مستعادة يقرّ غارثيا ماركيز بأن جميع رواياته تتمحور على الحب، وإن تَعَمّدت إخفاء ذلك. والحال انه يصعب التغاضي عن جرعات الحبّ في شريط يحرّكه الوقت ويأخذه في كل وجهة، خلال تسعين دقيقة. ثمة قرينتان على مرور الوقت: نهر ماغادالينا وقطار باللونين البرتقالي والأزرق يطلّ غابو من إحدى فٌتحاته ليحيي مغتبطا كأحد نجوم السينما، مئات أتوا لموافاته. لا يكفّ الوثائقي عن العودة إلى النهر والقطار فيصيران لازمة.
بدأ الشريط الوثائقي بالتشكّل قبل شهور على وفاة الكاتب غير انه، من حيث يدري أو من حيث لا يدري على الأرجح، عجز عن التحرر من خريطة طريق وضعها في حياته. أراد المخرج الإبتعاد من المقاربة الإصطلاحية لروائي وصحافيّ وَرّث العالم جدارية لا متناهية، لكنه قصّر في ذلك. أراد تهميش ارتباط الكاتب بالسحر، لكنه لم يجد في المحصلة أفضل من عنوان "غابو، سحر الواقع".
أشرف الكاتب الكولومبي خوان غابرييل فاسكيس على سيناريو الوثائقي، وها نحن نراه في إحدى اللحظات، يستوي في وسط ثلة إصدارات، البعض من منجزه والبعض الآخر تخصّ الكاتب البيروفياني ماريو فارغاس يوسا. يسأل في شأن ماركيز: "كيف فعل ذلك؟ كيف ابتكر أعمالاً غيّرت الأدب الغربي في القرن العشرين؟". أما الجواب فلا يبدو عنده وإنما عند العامّة. لا تتردد الكاميرا في الخروج إلى الضوضاء حيث يعلن إنسان الشارع الذي يشبه جميع الآخرين "كان الكاتب الأكثر شهرة في أميركا اللاتينية وفي العالم برمته"، وتؤكد على ذلك سيدة ثمانونية غطّت رأسها بوشاح أبيض "إنه أكبر مصادر فخرنا، هنا، في أركاتاكا".
أركاتاكا. مسقط ماركيز ومربط خياله ومنبت الجزء الأكبر من الوثائقي وهو لا يخرج منها سوى قليلا. في القرية يبدو الزمن كأنه توقّف. ثمة محطة وقود في وسط مساحة مقفرة ولا يعكّر الصمت سوى قدوم قطار مباغت. انها اركاتاكا الماضي، بالأبيض والأسود، كما عرفها الكاتب، تفسح أحيانا لأخرى أكثر عصرية. لكن الوثائقي ميّال إلى الحنين، إلى رصد مواسم الحصاد وعمّال يتحركون كقفير نحل أو قبيلة نمل. يفضّل التمهل في أزقة تشهد على عراك الديوك حيث المنافسة على تحديد مناطق النفوذ، طبيعة ثانية.
كل ما نراه أمامنا شقف من حيوات إنهمكت بها حكايات سردها الكاتب. قصص إستدعت طاغية استبدّ بشعبه إلى حد الثمالة، أو اعتاشت من أساطير كانت أشدّ وقعا من الحقيقة.
لا يمكن الفكاك من حضور غابو الداهم، وهو "الكائن المتفوّق" على ما يسمّيه أحدهم في الوثائقي. في لحظة، تتسلّل الكاميرا الى نطاق خاص، إلى جوار شقيقه خايمي قارئا من "مئة عام من العزلة". يتذكّر خايمي بعدذاك غابرييل حين كان يردد انهم قبيلة وليسوا أسرة! إكتظاظ هو سِمة أميركا اللاتينية حيث الكثرة دليل على السخاء في كل شيء، وفي العاطفة أيضا.
تقترب عدسة الكاميرا من التفاصيل كأنها راغبة في تقريب المسافات الكرونولوجية، فيظهر غابرييل أو "غابو" طفلاً. ثم يحين زمن ترك الكلام للشقيقة عايدا نلمحها في المطبخ في عفويتها اللافتة وفي ثوبها المزركش. تتلو عايدة مقتطفات من "رائحة الغوافا" كتاب يدّعي انه حوار بين غارثيا ماركيز والصحافي بلينيو ميندوسا، بينما يشكّل في الواقع إفشاءٌ كتوما، تماما مثل الوثائقي.
لم يستطع غارثيا ماركيز أن يدرك الأدب خارج دائرة الصداقة. والحال ان الودّ الذي جمع الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون بالكاتب المرجعي ليس سراً. أجهر كلينتون إفتتانه إزاء نصّ قادر على "الصدق العاطفي"، أما في الوثائقي فيتوقّف عند سحر ماركيز (مجدّدا) وأسلوبه الشخصي في النظر إلى العالم موضحاً "عَبّر في ألف أسلوب عن هباء إنكار سموّ الروح الإنسانية".
يترك الشريط مكاناً لخبر رحيل الكاتب يتقدّم نشرات أخبار العالم. ثمة تهافت إعلامي على السبق وثمة جلبة تقطعها العودة مجددا الى صفحة المياه الهادئة. نواصل الرحلة فيجيء صوت غابو أمام جمهور ورع، إبان تسلّمه جائزة "نوبل" للآداب. أما كلامه فيحلّ كالوصية.
يقول الكاتب "لم يفت الأوان بعد لنتعلّم خلق اليوتوبيا المضادة". يوتوبيا حيث لا يملي أحدهم على الآخر أي شيء ولا حتى أسلوب الموت. في هذه الجنة الأرضيّة يؤكد غابو ان الحبّ أكيد أما السعادة فمحتملة.


[email protected] 
Twitter: @Roula_Rached77


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم