الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

عن المتوسط وطن البؤساء

المصدر: "النهار"
رلى راشد
عن المتوسط وطن البؤساء
عن المتوسط وطن البؤساء
A+ A-

حَمَلَت لنا الأخبار الطالعة من جوف ليل السبت - الأحد، حكاية نحو سبعئمة روح هامت فوق قشرة المياه المالحة، قبالة السواحل الليبيّة. لم يلبث أن تأكّد الخبر حتى أُلحق بآخر عن فجيعة مماثلة تخصّ ثلاثمئة مرشح إضافي للتهلكة، تركوا ليتخبّطوا بين حياة وموت قبالة جزيرة رودس، وكأنهم طعم في نسيج عنكبوت رقيق.


صعد هؤلاء بالمئات إلى قوارب صيد خشبيّة جرى ملؤها حتى التخمة، إتجهوا نساء ورجالاً وأطفالاً صوب صناديق المغادرة المكتظّة إلى حدّ التفكّك، وعيونهم شاخصة صوب يابسة بعيدة، غير انهم استعجلوا الوصول ليسقطوا في القعر القريب جدا. لم ينقذ من بين المقامرين بالحياة سوى قلة، في لحظة كأنها إرتطام بين عالمين: عالم الواقع الذي جاؤوا منه وعالم الوهم الباحثين عنه.


لم تبدأ حكاية هؤلاء في الأمس وإنما في منتصف سبعينات القرن العشرين حين إفتَتح ما يزيد على مليون مواطن من فيتنام معمودية المَنيّة البحريّة، ومذّاك إخترق "ناس القوارب" ـ على ما أُطلق عليهم - المياه المشرّعة على اللامكان. وفي حين تاهت مئات العبّارات في عرض المجهول لم تبلغ سوى واحدة من أصل ثلاث، وجهتها. لا فرق إذاً في حال قضى هؤلاء في عرض المتوسط أو في بحر الصين أو في المياه الإقليمية الأندونيسية، حيث صار لبنانيون، مثلنا، أضحية بحريّة. لا يهمّ الحيّز الجغرافي، ذلك أن الجميع غرقوا عند بوابة المستقبل. إستخدم مصطلح "ناس القوارب" للدلالة على زمن ومكان محدّدين، ولم يلبث أن صار تعبيرا ملطّفا لوصف الأقدار المبدّدة ولينوب عن جميع الفارين من جحيم الحروب أو البؤس أو القنوط.


أراد هؤلاء ومنذ عشرات الأعوام أن يقبضوا على زبد البحر بأيديهم فاستسلموا لأهواء الأزرق الكبير ولأمواجه وتياراته. أتوا إليه مدركين غدره سلفا ومرتابين، ترقّبوا ان يلفظهم على السواحل عند بزوغ الفجر وكأنهم قطع خشبية. لكن الغواية عدوّة المنطق، عاصفة هوجاء قادرة على انتزاعهم من معيشهم وعلى حرفهم عن ماضيهم وعلى إلقائهم في آتون اليوتوبيات الزهريّة.


إنتهت حكايات عدة بجرعة رفيعة من الدرامية واعتقلت أقدار كثيرة في خواتيم مخيّبة في أقل حدّ وجنائزيّة في أبعد حدّ. عاد كثيرون في صناديق، كأنهم يقلّدون خيال البلجيكي ماغريت الذي تمكّن من تشخيص الموت في إحدى لوحاته. إستلهم ماغريت لوحة لإدوار مانيه حيث مجموعة ناس على شرفة، لكنه عمد إلى استبدالهم بمجموعة توابيت مؤنسنة بأحجام وهيئات مختلفة: الأول واقف والثاني جالس والثالث معقود الساقين. يصحّ أن نتصوّر ركاب قوارب الموت تنويعا على هذه الصورة المؤرقة.


في روايته بالفرنسيّة "الرحيل" الملقاة في تسعينات القرن المنصرم، يكتب الطاهر بن جلون عن طنجة المدينة المنخورة بسبب البطالة والدعارة والفساد والتي تتأمل إسبانيا - الحلم القابعة على مرمى حجر، على بعد أربعة عشر كيلومترا تحديدا. يلاحق الكاتب هاجسا بشريا يستحيل لعنة، حيث تصير المغادرة أو "الرحيل" رئة الحياة الوحيدة. في النص تطلب فتاة بإسم مليكة تعمل في أحد مصانع ميناء طنجة من جارها المتبطّل أن يطلعها على شهاداته. فيسألها "ما الذي ترغبين في امتهانه مستقبلا؟" فتجيبه "الرحيل"، ليعلّق "لكن الرحيل ليس مهنة".
يظنّ كثيرون أن السفر حرفة أو رحيل حتى. لا يدركون انه إقامة في شكل آخر، فحسب.



[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم