الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

مسرح - فينوس تمثالاً رخامياً أو متلفعة بالفراء أدبٌ إيروتيكي يفوق الخيال جاك مارون برع في خلق المسرح الأمثل للحلم المازوشي

مي منسى
مسرح - فينوس تمثالاً رخامياً أو متلفعة بالفراء أدبٌ إيروتيكي يفوق الخيال جاك مارون برع في خلق المسرح الأمثل للحلم المازوشي
مسرح - فينوس تمثالاً رخامياً أو متلفعة بالفراء أدبٌ إيروتيكي يفوق الخيال جاك مارون برع في خلق المسرح الأمثل للحلم المازوشي
A+ A-

المسرح الناجح هو الذي يبقى هاجسا في الفكر بعد أن يقول الممثل كلمته الأخيرة، تاركاً للمشاهد شأنه في استذكار لمامات مما قيل في النص المسرحي وتفسيرها من خلال ما تلقّته أحاسيسه. كالفراء الذي يدغدغ البشرة ويبث فيها شهوات كأصابع عاشق، كنت في هذا الشعور وأنا في برد الشارع أستعيد كلمات جريئة، وقحة، مثيرة، تستثير الخيال في الحوار المصوغ على نار الشهوات بين ريتا حايك، جنّية مسرح تستثير الرغبات ببراعة تمثيلها، والبديع، بديع أبو شقرا، وكلاهما برع في أن يكون شخصيات عدة تداخلت في ما بينها، من دون أن تتطفّل الواحدة على الأخرى.


"فينوس لابسة الفراء"، تحفة ديفيد إيفيس الشهيرة التي لا تزال منذ أربعين عاما هاجس المخرجين السينمائيين والمسرح، كانت بلا شك في انتظار مخرج لبناني، رؤيوي ولامع، يصيب أهدافها المعقدة، الحذقة، فيثبت للعاصمة بيروت أن المسرح الذي عاش زمنه الذهبي قبل الحرب يشهد اليوم ولادة مخرجين وممثلين في عروقهم دم المسرح، هذا المكان الذي تتخذ فيه الكلمة دور السلطة الفاعلة في النفوس.
جاك مارون تخبرنا الخشبة أنه عاشق مسرح، لا يرضى بالوسط، بل يعلو في رحاب المسرحية إلى قمة مفاعيلها الانسانية مع ممثلين مطعّمين بعشقه وهواجسه للأفضل. لعل نص ديفيد إيفيس "فينوس لابسة الفراء" كان المادة المثيرة التي وضعته أمام تحديات يعشقها، في أن يشيّد على الخشبة مسرحية غريبة في صياغتها، تروي علاقة عجيبة بين رجل وامرأة يتخذ فيها الحب الناري شكل العبودية المختارة برضى الطرفين. لكن فلنعد إلى البداية، حيث في مستودع رتيب يعمل مخرج على امتحان فتيات، واختيار الأكثر تلاؤما بينهن مع دور فينوس، الرواية التي تخيّلها في العام 1870 الكاتب الألماني ليوبولد فون زاخر- مازوش، ومن إسمه انتشرت كلمة مازوشية ومعها هذه الرواية التي اثّرت بحياكة فصولها العجيبة على المخرجين في العالم. ففيما المخرج يعاني من خيبة لعدم عثوره على العنصر القادر أن يلعب دورا معقدا، يحرّك مشاعر الجمهور، تدخل صبيّة بللها المطر، وهي تعتذر عن التأخير. الشكل جميل والفم الأحمر يشدّق بالعلكة ويفرقعها، أما لهجتها الفظة فكافية لئلاّ يكون لها حظ في هذه المسرحية. لكن الصبية مستقتلة على الدور، ملحاحة، هجومية، تفرض على المخرج وجودها، أولا في التعرّي من ثياب المطر، وإبراز مفاتنها، لا عمدا بل بعفوية ما وهبتها إياه الطبيعة من جاذبية وإغراء. يبقى بديع المخرج متحجّرا أمام جمالها رافضاً وجودها إلى أن تُخرج من الحقيبة فستان المسرح وترتديه، ثم النص، وقبل أن تبدأ بالإلقاء تبصق العلكة وتلصقها على العمود، وهو مندهش، لا يعي ما يحدث. الصبية السوقية التي غزت وحدته منذ لحظات، تعالت بهذا النص الشاعري الجميل، تعيشه بنبضات قلبها، وهو أمامها جامد، منبهر مما يسمع ويرى من دون أن يفقه سر هذه المخلوقة الشاذة عن المقاييس السائدة.
لنعد إلى النص، الذي تولّى اقتباسه إلى العربية كل من لينا خوري التي لن ننسى من أعمالها المسرحية "حكي نسوان" و"مجنون يحكي"، وغبريال يمين المخرج والممثل المسرحي والتلفزيوني. فهذا الاقتباس الذي لم يتزيا بالتصنّع، رشفناه في الحوار بين الممثلين، كعصير أصيل لذيذ من كرمة مقطوفة للتو. لا شك أن النص، كما الاخراج الذي قام به جاك مارون، كانا العاملين الأساسيين في خلق الممثل النموذجي وإطلاق ما ينبع منه من مواهب وإغراء في مسرحية بدأت على شكل كوميديا طريفة، بدخول ريتا حايك وغزوها المكان بتلقائية متحرّرة من آداب الحياة. فجأةً، والنص بين يديها، تخترق هذه الممثلة الباهرة جسد فينوس، إمرأة معبودة وإلهة خالدة للحب، تشيّد حولها طقوسا إيروتيكية واحتفالات سادو- مازوشية، يتحوّل فيها المخرج إلى الشخصية التي تصوّرها زاخر- مازوش القابل بالإذلال والعبودية باسم حب متحجرّ لا يؤمن بسوى اللذة والمتعة والشهوات.
ألا تقول فاندا لشمنسنكو عشيقها: أنتم الجدّيون تتكلّمون عن الحب كواجب دائم فيما هو متعة عابرة؟
حوار سريع محبوك بخيوط ينتقل عليها الرجل من واقعه كمخرج، إلى ممثل، وهو تحت سطوة هذه الجنيّة، لمجاراة هذه الماجنة المنادية عالياً بمبادئها. تجسّد تمثال فينوس الرخامي، لا قلب ولا عاطفة.
"لا أعتقد أني مغرم بك، خضوع جسدي فقط يهتف إليك". غير أنه يوقّع عقداً، تأكيداً لعلاقته بها، ليكون عبدها وخادمها. امرأة تتدثّر بالفراء، وفي يدها السوط، عاملان ترى فيهما ما يلائم أهواءها. فطبيعة المرأة الحقيقية تقول، أن تعطي ذاتها حيث تحب، وأن تحب ما يعجبها.
هذه المسرحية المبنية على أوتوبيا إيروتيكة تدخل إلى الحلم وتخرج منه بلمحة لا حدود بينهما. تشد المشاهد إلى كل كلمة، إلى كل حركة وتعبير، من ممثلين تفوّقا في الارتقاء بالإيروتيكية إلى أسمى فنون التمثيل والشاعرية. من الاعترفات الجميلة التي سرت بينهما: "لديك اسلوبك الخارق في تهييج الخيال واستثارة نبضات قلبي"، "لقد أفسدت خيالي وأشعلت دمي"، و"الحب لا يعترف بالفضيلة ولا بالجدارة".


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم