الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

في مديح الأستاذ أمين نخلة

عقل العويط
عقل العويط
A+ A-

صدرت "الأعمال الكاملة" لـ"أمير الصناعتين"، أستاذنا أمين نخلة (1901-1976)، لدى "دار صادر". الذين تربّوا من الكتّاب والشعراء والمتذوّقين القرّاء، على أدب "المدرسة اللبنانية"، في تجديد اللغة العربية، وهندسة الحلم، والألق، والابتكار، والخلق، والانفتاح، والتموسق، والسلاسة، والطواعية، والصناعة، يعرفون أن من مسؤوليات هذا التتلمذ الانتباه إلى مواصلة إلقاء الضوء على هذه التجربة التاريخية، التي ساهمت في نقل لغتنا العربية إلى قلب الحداثة، شعراً ونثراً. لكن مهلاً! لا نسعى في مناسبة هذا الصدور، إلى رثاء الماضي، ولا إلى التعلّق بأهداب الحنين إلى زمن ثقافي وأدبي ولغوي آفل، بل إلى تقديم شهادة نقدية، متواضعة، لكنْ عارفة، تكريماً للغتنا العربية، ولأحد أساتذتها الكبار، وخصوصاً في هذا الزمن المعيب، حيث بات اغتيال اللغة شبيهاً بالاغتيالات الجمّة التي تعصف بديارنا الشرقية.


أستاذنا أمين نخلة، كان فريداً في تجربته الأدبية، وفي ترسيخ الجماليات، وفي "تعاطي" اللغة، تعاطياً، هو العشق والعقل العارف والعرفان والوله والشغف والوجد والاجتهاد والصبر، حيث الخضمّ القائم على التلقيح، والتأنيث والتذكير، وحيث الارتفاع بالنثر إلى مستوى استشعار الشعر، وصولاً إلى رتبة الزهو اللغوي النادر الوجود.
أمين نخلة هذا، قد لا يستسيغه بعضٌ منا في كلّ تجاربه، وقد يغمز بعضٌ ثانٍ من "صناعته"، وقد يفضّله آخرون في نثره على شعره، أو العكس. من اللائق أن يكون النظر في أدب أمين نخلة على هذا المستوى النقدي المتمكن. لكن هذه السوية تتطلّب منا، أن نذهب إليه قليلاً، عمداً وقصداً، في "المفكرة الريفية"، "تحت قناطر أرسطو"، في "أوراق مسافر"، في "التذكارات"، في "النجاوى"، في "دفتر الغزل" في "الديوان الجديد"، وفي سواها من أعمال، لأن في ذلك ما قد يسعفنا ويسعف أجيالنا الأدبية الجديدة على ربط حاضر التجارب بإرث الماضي.
ليس ثمة قدرة على التجديد في الأدب واللغة، إلاّ باستيعاب ماضيهما، لتخطّيه. أكثر ما يؤلم في بعض راهننا الأدبي، اللبناني والعربي، أن كثيرين من طالبي الأدب والمتأدبين والراغبين في الكتابة، لا يريدون التعرّف لا إلى اللغة، ولا إلى التجارب والعمارات الأدبية السالفة، كأنهم "مقطوعون من شجرة" أدبية، موغلين في التغافل والغفلة والجهل والتجاهل، وفي مسألة التعدي على اللغة العربية، وتشويه جمالياتها، واستسهال القفز فوقها.
التعرّف إلى أدب أمين نخلة، الآن بالذات، لازمٌ وضروري، لأنه يقيم جسراً حقيقياً للتواصل بيننا وبين ماضينا الأدبي القريب، ويساهم في إعادة بعض الاعتبار إلى لغتنا العربية الفذة.
* * * 


في الرنوّ والمراودة والتعاطي
... وليس من سبلٍ ناجعة لتعاطي اللغة، سوى الأخذ بجسمها من كينونته، ومن جهاته، ومن داخل، ومن خارج. فللجسم اللغوي مادةٌ هي قوامُه، لكنْ ثمة عطورٌ تبوح في الأرجاء، فلا يُرجى اقترابٌ عارفٌ إلاّ على طريقة مَن يستشعر الوجود برمّته، ليتدارك أحواله الشتّى. كمَن يتنفّس ليلمس، وكمَن يملأ رئتيه ليتعاطى الخارجَ، فيرى، أو يتدفّق. وقد أقول، ليس من سبلٍ تستسلم لها اللغة، ليتمّ العرفان المترفّق، بسوى الإحساس الدفين بكينونتها ليس إلاّ.
كلّما عرفتْ لغةٌ أن ثمة مَن يومئ إلى أنوثتها الخفية، بادلتْه إيماءً بإيماء. وأشياء أخرى. وهلمّ!
لا أعرف وصفاً يصف. أعرف التكهّنات التي تراود الكاتب، قبل التعاطي، وأثناءه، وبعده. أعرف أن العقل الكثيف اليقظ المتنبّه، هو بعضٌ من ذلك الفعل، في لحظة التعاطي، متلازماً مع الجمّ العارف واللطيف من الرؤية والرؤيا، ومن العطف والضمّ والإرخاء والشدّ والتلمّس واللين والتجافي والانتقاء والمحو والتشذيب والتقليل والتكثير والتطويع والتحفيز، وسوى ذلك من لزوم ما يلزم، ومن الاستغناء عمّا لا يلزم، وفق الطريقة التي يتمّ فيها الإغماض الخاطف، أو عكسه. هذا العكس، هو الإغماض المتباطئ الخفر المغناج. وقد يكون ذلك بتفتيح البصر، وتعاطي العينين مع الضوء، ومع العتمة، وتدرّجاتهما على السواء. وقد يكون أيضاً بتعاطي العينين مع العينين، وما يرافقهما من تراسلٍ وصمتٍ وتبادل وترميش ورنوّ وصفاء. وقد أقول بتعاطي الشفتَين مع الشفتَين، والجسم كلّه مع الجسم كلّه، ومن خلاله، وفيه، وعبره، وبالمداواة. وهلمّ.
لا أعرف وصفاً يصف. وليس للوصف أن يفعل شيئاً جوهرياً في هذا التعاطي. على طريقة مَن تنوب يداه عن يديه لإدراك الظلال، أو لاستجلاء الحسّ لدى نزول المطر في الهواء، أو ولوج الهواء في الهواء، وما يشبَّه به من حالاتٍ، هي صنيع الحسّ، وما يتعدّاه بالتخييل والتكهن والافتراض.
لا أعرف وصفاً لتعاطي اللغة. أعرف فقط بالوجد، وبالبداهة، وبالجنس. أعرف أيضاً بالمراس، أن المراس هذا هو بديل التنظير الواصف، وهو برهانه ودليله ومرآته. وهو المثل، كتعبيرٍ عن التعاطي كلّه، باعتباره خلاصة.
لا أعرف وصفاً لتعاطي اللغة، يجدي وينوب. لكنني أعرف الجنين المتكوّن بالتدرّج، منذ التواطؤ الذي ينشأ بالعيون، أو بالقلبين، أو بالشفاه، أو بالأيدي، أو بالدخول. هذا كلّه، شذراتٌ تتعاطف وتتواكب وتتآخى وتتناجى وتتذاوب، لجعل الصناعة تصل إلى مدراكها. وليس من مدارك واحدة، تنهد إليها صناعة اللغة، بل كثراتٌ متنوعة، كأعداد النجوم – وكلّها مختلفة - وكعدد الهواء، وليس من شَبَهٍ إلاّ ما جاء عَرَضاً، كالشَّبَه بين التوائم.
التعاطي، أجمله، وأحسنه، وأصعبه، ذاك الذي يكون فحسب. ضربة نرد، سريعة أو متأنية.
التعاطي هو. فحسب. لا يصطنع، ولا يفتعل، ولا يظهر عليه اجتهاد، بل ذاك الذي يأتي عفواً، على رغم ما فيه من صناعة.
* * *


في الحبّ وهو الجنس مطلقاً
في الحبّ، وهو الجنس مطلقاً، ليس من زمنٍ يصرفه الرجل والمرأة، مبدَّداً على الاصطناع والافتعال والاجتهاد البيّن. بل الوقت كلّه يُبذَل بذلاً، كالنبع، لتجويد الجسدَين تجويداً يكون باستجماع سؤددهما، إلى أن تتوحّد عناصره الحسية وغير الحسية، على غرار الطريقة التي يلتقي فيها الوعي باللاوعي. وهما الكلّ بالكلّ.
كنتُ أقول بالرنوّ والمراودة والتعاطي. نعم. لكنني، في الغمرة، أنزلق إلى الأسئلة: أهو فعل الموهبة، أم فعل الكهرباء، أم فعل الجموح الطيّب اللذيذ (الفاسق، لِمَ لا!)، أم الشبق متشلّقاً، أم الحواس الخمس، وشقيقاتها، أم نزول الروح في الإناء، وهو الموضع الأسمى، حيث المختبر المُهلِك. ولا خلاص!
قد يكون مَثَلُ الحبّ هذا، جنساً، كنزول الروح في الإناء، هو المَثَل الأقرب الذي يصف الحبّ في اللغة.
فليتنبّه العشّاق، عشّاق اللغة، وهم متنبّهون بالطبع والبداهة والسليقة، وبالمراس من ثمّ، إلى أن الحبّ يتطلّب حضور العقل كلّه، ولكنْ من دون انتباه العقل. مثلما يتطلّب، في الآن نفسه، ركوع العقل كلّه، ولكنْ من دون توجيه الانتباه نحو هذا الركوع.
فذلك كلّه - الشيء ونقيضه - إنما يتكامل بالبداهة الكثيفة، وهي ذروة الذكاء المجتمِع عفوَ الخاطر، بخفاء الإرهاف العقلي. وكم ذلك غير قابلٍ للوصف!
* * *


في مديح الأستاذ أمين نخلة
أسوق هذه التداعيات، سَوقاً يشبه موهبتي القلبية المتشلّقة، عندما تستولي عليها امرأة. هذا خصوصاً، ينوء به الوصف عندي. لكن "المفكرة الريفية"، تحديداً، وخصوصاً، ودائماً، تأخذني بالحبر كلّه إلى هناك. وكم يجب على المشتغلين باللغة والأدب العربيين، أن يذهبوا جميعاً إلى هناك، لنلتقي جميعنا هناك!


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم