الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

أيتها الزرقة، أيتها السماء، ارفعيني إليكِ

علا شيب الدين
A+ A-

في مناطق سوريّة مسمَّاة "آمنة"، مسكونة بسكونٍ مدجَّج، مصبوغة بمسالَمةٍ ظاهريّة، وتجهد في قمع ما بقيَ من طاقات حيوية لديها عبر مزيد من الرضوخ الاستسلاميّ طلباً لسلامة منزوعة الكرامة؛ وربما يكون ذلك مجرّد رضوخ مشدود يتفجّر عند أوّل بوادر تَراخٍ ما؛ في المناطق هذه، لم يعد الذهاب، بالنسبة إلى البعض من الفقراء والعاطلين عن العمل والعلم وأشياء إيجابية أخرى؛ إلى مناطق سوريّة أخرى مشتعلة حرباً وثورة وأشياء أخرى؛ يحتاج إلى استعذابِ الموت "البطوليّ"، أو إلى تشريعٍ عملانيّ، وتسويغٍ لغويّ راقٍ وأخلاقي من مثل: "الدفاع عن الوطن"، على جرْي العادة منذ سنوات. لم يعد هؤلاء، على ما يبدو، في حاجة إلى إجهاد أنفسهم في اختلاق ذرائع مؤدَّبة مهذَّبة ومشذَّبة، ربما لا تنسجم إلى حدّ كبير أو صغير واقتناعاتهم واقتناعات مَن يستمع. يبدو أنّ الملل وتفاقم سوء الحال وانعدام الأفق والأمل، باتت تحول دون الاعتناء بالمظهر، لغوياً أكان أم غير ذلك، مع ما يستتبعه ذلك من انعدام الشعور حيال كلماتٍ من مثل: الوطن، الأرض، العرض، الشعب، وغيرها من عبارات، من كثرة ما استُعمِلت وتكررت وترددت وتناهت إلى الأسماع من دون أن تتناهى إلى قوام وتجسُّد، انطفأ الشعور الحميم بها. لقد خلعَ أولئك الأردية المثالية كلّها، وتناهوا إلى واقعية فجّة، معلنين مصرّحين: "بدنا نعيش". لا تشبه إرادة العيش هنا، البادية في "بدنا"، التي تتمنى "استمرار الحرب" باعتبارها "باب رزق" يؤمّن ضرورات العيش من مأكل وملبس ومأوى؛ إرادة الحياة في صرخة الاحتجاج "بدنا نعيش"، التي يصرخها مَن يريدون "انتهاء الحرب"، وانتهاء القتل والاستبداد في أشكالهما كافة، توقاً للركون إلى السِّلم والمحبة والحرية والعيش المشترك الحر الكريم والفرح والمرح والفن والجمال والإبداع والعشق.
الإمعان في "الركون" المهمّ هذا، يكشف عن تفرقة ثانية بين معنيَي "بدنا نعيش" هذين، ومغزاهما، على الرغم من تطابق التعبيرَين لغوياً. تفرقة من شأنها بيان التصاق المعنى الأول بعيشٍ محض "بيولوجيّ"، منغلق على ذعرٍ وجوديّ، لاهث خلف حاجات بيولوجية طبيعية، فاقد لأي معنى من شأنه أن يمنح وجود المرء، معنى إنسانياً كالحلم وغيره. تنفكّ في "العيش البيولوجيّ" هذا، الارتباطات العاطفية والوجدانية بالآخر، ليحلّ محلها عداء وقسوة ونميمة وكره وعنف، هو في الأساس، وليد تغيّر بطيء داخليّ علائقيّ، قضى على التسامح والمحبة والمشاركة، وفجّر محلّها القتل والتدمير والاضطهاد المعنويّ والماديّ. تخيّم هنا كارثة علائقية تصيب الذات والآخر معاً. ففي "العيش البيولوجيّ" هذا، تهفو النفوس، فتمسي فقيرة جدباء هزيلة. تتضخّم الذات على حساب الآخر- الضحية، الذي أمسى القاتل الطامح إلى "عيش بيولوجيّ"، معدوم الإحساس حياله، بعدما صار بالنسبة إليه مجرّد شيء، أو "باب" مفتوح، يدرّ "رزقاً"، فتبرز، من خلال ذلك، أنويّة فاحشة مفرطة، قد تتخذ أشكالاً دموية وكاسحة، تنهار في قبالتها قيمة الآخر ويُستباح. وإذ يُستباح الآخر؛ يكثر النهش وتتسع غابة الذئاب. يجري حينئذ، تحقير ذوي الحق والخلُق، والسخرية من الفضيلة والفضلاء، وتنعدم الحرية. وإذ تنعدم الحرية؛ يكثر الوشاة الذين يعتاشون من أذيّة الغير ويرتزقون، و"تزدهر" الدسائس والمؤامرات.
في المقابل، يظهر المعنى الآخر، مدى حبّ الحياة لدى "صارخٍ" يريد أن "يحيا" لا أن "يعيش". أن يحيا، يعني أن يتحرَّر من أَسر "العيش البيولوجيّ"، أن لا يطيل الوقوف عند متطلّبات الجسم، أن يشبعها قليلاً أو كثيراً، لغرض التحليق فوقها والإمعان في المعنى العقليّ، الروحي، الجمالي، الأخلاقي وكل ما يهب الحياة الإنسانية معنى يمدّ الشخص بمشاعر الامتلاء الحميم، والوفاق مع الوجود الآخر، ويعزّز الصورة الطيّبة عن الذات والعلاقات واللقاءات. إنه "العيش" الذي تفرّ منه الذات المطعونة في كرامتها وكبريائها، لـ"تحيا" تدفّقَ العاطفة، واندمال الجرح الغائر.
تفرقة ثالثة بين التعبيرَين نفسهما، تطفو عند النظر إليهما باعتبارهما قوّتَين متنافرتين متخارجتين، تضاهيان قوتين فيزيائيتين؛ فـ"استمرار الحرب" المضمَّن في التعبير الأوّل، هو في الآن عينه "انفصال" تام مترافق مع لامبالاة تامة بين الذات والموضوع - الآخر. الانفصال هنا، يستتبع عزلة (لا وحدة) الذات وتقوقعها. في هذه العزلة، تنعدم كل شفقة حيال الموضوع - الآخر. وعليه، يصبح قتل طفل أو امرأة وتهديم بيت وتشريد عائلة، في سبيل "دفعِ إيجار بيت مُستأجَر أو مَهر عروس" مثلاً، مجرّد "موضوع" لا يستجرّ ذرْفَ دمعة واحدة حتى أو رفّة جفن واحدة، لدى الذات القاتلة المقيمة في عزلة تامة عن "موضوعها"، في حال من الانفصال التام، ولدى كل مَن يتماهى والذات هذه، يوافقها ويدعمها. لكن "انتهاء الحرب" المشرِّش في التعبير الآخر، هو "اتصال" حميم بين الذات والذات، إذ يُنظَر إلى الآخر هنا من منظور ندّيّ حرّ، فهو ذات حرّة أيضاً لا موضوع. شفافيّة الاتصال هنا المترافقة مع إحساس عالٍ ومرهف حيال المحيط والبشر، بين الذات العارفة الشغوفة الحدسية والعالم، من شأنها جعْل العلاقة بين الذات والآخر جدلية تفاعلية موسومة بذهاب وإياب موصولَين متواصلَين.
* * *


هناك تعبيرات أخرى كثيرة، لغوية راقية وأخلاقية في ظاهرها، مناقِضة لذلك في كواليسها وفي ما ترمي إليه؛ أمست هي أيضاً خارج نطاق الحاجة إليها، بعد مرور سنواتٍ سوريّة مُشلِّعة، هتكَت الحجب كافة. بعض التعبيرات تلك، كان مصموداً في لوحات إعلانية لطالما ملأت الشوارع، في البدايات، قبل أن تزول وتختفي أو يصيبها تشوّه بسبب عوامل جويّة ولم يعد مهمّاً ترميمه: "أنا مع سوريا" تقول لوحة، وقارئ حرّ أمام اللوحة يسأل في صمت: "وهل أنا لستُ مع سوريا؟!". "طائفتي سوريا"، تقول لوحة أخرى، وقارئ حرّ آخر أمام اللوحة يسأل في صمت: "وهل كنتُ طائفيّاً يوماً؟! لي أصدقاء وأخوة في الصحراء والجبل، في الغابة والساحل والسهل". "الحرية لا تبدأ بالتخريب، تبدأ بالتفاهم" تقول لوحة زرقاء ضخمة عالية إلى درجة التقزيم، وقارئ حرّ يرفع رأسه عالياً مكلِّماً زرقة السماء، فارد اليدين باسط الكفَّين مُناجياً: هاأنذا وحيد شريد وسط الخراب، لا أحمل سلاحاً، ولا حتى "أبيض". جُلّ ما أملكه، قليلاً وكثيراً من المنثور الأبيض والورق الأبيض والأفكار البيضاء والمشاعر البيضاء. أيتها الزرقة، أيتها السماء، ارفعيني إليكِ، أو بلّليني بمطركِ لعلّ الملتهب يبرد قليلاً. طوفي واجرفي الخراب كلّه. لا أحد لي غيركِ.


 كاتبة سورية

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم