الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

لا أتهم نفسي ولا أنفي التهمة عن الإسلام

علي حرب
لا أتهم نفسي ولا أنفي التهمة عن الإسلام
لا أتهم نفسي ولا أنفي التهمة عن الإسلام
A+ A-

بعد نشر مقالتي "التنين الإرهابي صنيعة المؤسسة الدينية"، على صفحات هذا "الملحق" (20/9/2014)، استمعتُ الى ما أثارته من ردود فعل من جانب القراء، كما قرأتُ بعض التعليقات من جانب الكتّاب، إيجاباً أو سلباً، الأمر الذي استدرجني، مجدداً، إلى الكتابة حول الهوية والحقيقة، أو الإسلام والإرهاب، أو العرب والعالم، وسوى ذلك من القضايا التي هي مدار النقاش المفتوح ومثار الجدال الصاخب في الأوساط الثقافية والسياسية، اللبنانية والعربية، بل في العالم أجمع، وخصوصاً أن العالم يزداد عولمةً، بقدر ما تتشابك المصائر وتتداخل المصالح على المسرح الكوني.


التبعية والاستقلالية
بعض من قرأوا المقالة، لاحظوا أنني كتبتُ عن الإسلام، وكأنني أخرج عليه أو أقف خارجه. في الجواب، في وسعي القول بأنني لم أتعامل مع نفسي كمسلم يدافع عن هويته، ولا أقول في المقابل بأنني تعاملتُ مع نفسي ككارهٍ لهويتي. لقد تصرفتُ كناقد يشرّح ويحلّل، ولا نقد يخلو من جرْح وصدْم، ولا سيما أن الوقائع، التي تفاجئ وتصدم الكثيرين من المسلمين، الغرقى في سباتهم، تضع هويتهم الدينية موضع المساءلة والمراجعة.
لذا حاولت، أقصى ما أمكنني، كسر المحرّمات المسبقات. هذا ما يقتضيه عمل الفهم والتشخيص. إذا شئنا أن لا نموّه الحقائق ولا نلتفّ على المشكلات لكي تزداد تعقيداً واستعصاء.
الأساس في هذا الموقف النقدي، أنني لا أُعرِّف بهويتي من خلال الدين، بعدما استقللتُ بفكري وتحررتُ من انتمائي إلى الإسلام العقائدي والفقهي، بوصفه مجموعة أصول وأركان أو منظومة فرائض وأحكام ترسم أطر النظر وتحدد قواعد العمل.
هذا ما أُصرِّح به في الندوات واللقاءات الفكرية، حيث أرفض أن أعرّف ككاتب مسلم أو كمفكر إسلامي، مؤثراً التعريف بهويتي أولاً كلبناني، لأن لبنان هو بلدي الذي فيه نشأتُ وأقيم وأعمل؛ ثانياً كعربي لأنني أنطق بالعربية وأكتب بها، ولأن لبنان ينتمي إلى المجموعة العربية.
أما الإسلام فهو بُعد، رمزي أو ثقافي، من أبعاد هويتي المركبة والملتبسة، وأنا استبعده من التعريف، على الأقل على صعيد الوعي، وأياً كان مدى تأثري به، وخصوصاً أنني أعدّ نفسي من أهل الفلسفات لا من اتباع الديانات.
بذلك أتصرف كما يفعل العاملون في حقول الثقافة في مختلف بلدان العالم، حيث الواحد يُعرّف بنفسه، أو يُعرِّف به الآخرون، من خلال بلده ومهنته، فيقال كاتب فرنسي أو فيلسوف ألماني أو عالم أميركي أو فنان ايطالي أو روائي كولومبي.


كسر الوصاية
في البلدان العربية والاسلامية ثمَّة إصرار على التعريف بالهوية، باستخدام الصفة الدينية التي تُعطى الأولوية على مفاهيم المواطنة والشراكة. والمآل، بعد عودة الدين على المسرح، عودته المرعبة، هو تمزيق المجتمعات العربية وتفتيت البلدان والأوطان. وتلك هي حصيلة غلبة الذاكرة والغريزة أو الطائفة والعضلة، على لغة الفهم وإرادة التعقل وسياسة التدبر والبناء في صنع المصائر المشتركة.
صحيح أن الإسلام هو الذي وقف وراء مشروع العرب الحضاري، وساهم في صعودهم على المسرح العالمي طوال قرون. لكن هذا المشروع قد استهلك منذ زمن، ولم يعد يشكل عنواناً للنهوض والتقدم أو محرّكاً للنمو والازدهار.
لا مهرب من اختراع صيغ جديدة للعمل الحضاري، تملأ الخواء الوجودي والفراغ الفكري، في مواجهة الشعوذة المعرفية والتشبيح الايديولوجي، فضلاً عن مواجهة الاستبداد السياسي والإرهاب الديني.
لا يجدي، الآن، الحديث عن إسلامٍ كان وسطياً أو متعدلاً أو سمحاً. أولاً لأن وعي المسلم بهويته لم يتشكّل في الماضي وفقاً لمنطق الاعتراف والتسامح؛ ثانياً لأن المسلمين قد اعتدلوا وانفتحوا بعضهم على البعض الآخر، وعلى الآخر، منذ عصر النهضة، بسبب انخراطهم في العالم الحديث بقِيَمه ومفاهيمه ونظمه؛ ثالثاً، والأهم، أنه لا سبيل للعودة إلى الوراء بعد سقوط المشروع الإسلامي الذي يكتب نهايته الكارثية على يد أصحابه.
هنا أجدني أقول مرة أخرى بأنه لا جدوى من الاستشهاد بآيات القرآن للدفاع عن الإسلام. فالقرآن إذا شئنا أن لا نتكلم بلغة قدسية، لاهوتية، غيبية، بل بلغة دنيوية، عربية، تداولية، هو معرض للمنتجات الرمزية والسلع الفكرية ينطوي على ما التبس واشتبه أو ما تناقض وتعارض من المعاني والدلالات أو من الآراء والاحكام.
لنتوقف مثالاً عند مسألة الزواج التي هي قضية وجودية حيوية. ففي وسع الرجل إذا شاء أن يعدل أو أن يكون من ذوي المروءة أن يكتفي بزوجة واحدة، أمّا إذا أراد أن يستسلم للهوى أو لمنطق الغريزة والذكورة، ففي وسعه أن ينكح ما طاب له من النساء. ومع أن الواحد يعرف أنه لن يعدل إلاّ مع واحدة، فإنه لا يستطيع السيطرة على هواه. وتلك هي فضيحة التشريع الديني.
في كل حال، ميزة القرآن وفرادته، أنه يستعصي على الإختزال الى رأي واحد أو الى مذهب وحيد، وعلى عكس ما تعامل معه أصحاب الفكر الأحادي والمنطق الإقصائي من العلماء الذين نظّروا وشرّعوا للعقائد الكلامية المتناقضة والمذاهب الفقهية المتعارضة التي ضيّقت ما اتسع في النص المفتوح على تعدد القراءات، والتي حلّت، في النهاية، محل القرآن، لتصبح أولى منه في التعريف بهوية المسلم وتسيير شؤونه.
من هنا، فإن العودة إلى القرآن للكلام على اعتدال الإسلام وتلميع صورته، غير ممكنة بعد كل هذه الإخفاقات الذريعة والإنتهاكات الشنيعة التي مست الرمز وطاولت الإسم تشويهاً وتلطيخاً. فالأمر يحتاج الى تحويل خلاّق، بعيداً من التهويمات العقائدية والهوامات النرجسية، من أجل التجديد الفكري، بابتكار ما هو محرّك وجذّاب أو راهن وفعّال من العناوين والأسماء.
لنحسن القراءة: لا شيء بعد الحدث يعود كما كان عليه. لذا لا يجدي التفلسف بصورة مقلوبة لتلميع صورة للإسلام سلمية، مدنية، غير عنفية، بعدما أنتج على يد دعاته وحرّاسه كل هذا العنف الأعمى والفاحش. لقد سقطت الأقنعة وانكشفت اللعبة، ولا عودة إلى الوراء، بعد كل هذه التوظيفات والإستثمارات للإسلام من جانب منظمات وجماعات ودول أتقنت فنون الدجل والنفاق والزيف، بقدر ما مارست ضروب الفساد والإستبداد أو الإرهاب والاجرام.
الممكن الآن هو أن يتغير الإسلام تحت وطأة الحوادث الجسيمة والتحولات العاصفة. هذا ما حصل في المسيحية من قبل، إذ هي اضطرت، في مواجهة تحديات العالم الحديث، الى الإشتغال على نفسها تغييراً وتبديلاً، بكسر المحرّمات والثوابت والتخلّي عن منطق التكفير، لكي تحسن التكيف مع تطور الحياة ولغة العصر. هذا ما يُتيح للبابا الحالي فرنسوا أن لا يتصرّف كحارس للعقيدة بل أن يقول إن مَن يعتقدون بأنهم لا يؤمنون هم شعب الكنيسة وأهلها.
فلا نتوقعن إذاً من رجال الدين المسلمين أن يُقْدِموا، طوعاً، على إجراء إصلاحات جذرية، لأن ذلك يلغي مبرر وجودهم ويقوّض سلطتهم، بقدر ما يزعزع أسس الإيمان، كما تتجلى بشكلٍ خاص، في ثنائية المؤمن والكافر أو المسلم والمشرك. وإذا كانت هذه الثنائية تستخدم عادةً لاتهام الكافر وقتله، فإنها استُخدِمت لتبرئة البربري "الداعشي" من تهمة الكفر، كما قرّر المجتمعون في مؤتمر الأزهر، مما يعني أن "الداعشي" هو مؤمن، والمؤمن هو مَن يكفّر غيره. ولذا لا معنى لاتهامه بأنه تكفيري. ولا شكّ أن من يبرّئ البربري هو وجهه الآخر، وتلك هي فضيحة المعتقد الديني، كما يجسدها الذين لا يعرفون معنى ما يقولون.
وإذا كانت المسيحية احتاجت إلى حدث كوني تمثّل في الثورة الفرنسية العُظمى، لكي تتخلّى عن وصايتها على المجتمعات والدول في أوروبا، فإن الإسلام يحتاج إلى كلّ هذه الكوارث التي تحصدها المجتمعات العربية، على يد الناطقين باسمه، لكي يغيّر أهله علاقتهم بالثوابت التي لا تنتج سوى الفخاخ والمآزق، بل هو يحتاج الى المزيد من الأعمال البربرية، لكي يقتنع المسلمون بأن إسلامهم لم يعد صالحاً لصناعة حياة حديثة ولا لبناء مجتمعات متطوّرة، لا على مستوى الشراكة الوطنية ولا على مستوى الشراكة العالمية.
هكذا، فما يحدث من صدمات وانهيارات تصنع هزيمة المشروع الإسلامي، هو الذي سوف يكسر وصاية رجال الدين على المجتمع، لكي يفتح الإمكان لتغيير علاقتنا بالإسلام كعنوان حضاري أو كمشروع سياسي، بحيث يُعامل بوصفه فاعلية ثقافية لا غير، أو حقلاً من حقول المجتمع، لا أكثر ولا أقل، صلاحه في أن يحسن المؤمنون به التواصل مع شركائهم في الوطن أو في الإنسانية، على سبيل التبادل المثمر والتفاعل البناء، بعيداً من ثنائية التقديس والاقصاء.


المرآة والقراءة
في ما يخصّ قول الحقيقة بشأن الإسلام، قد لا يجد البعض في مقالتي سوى أخطاء ومغالط، كما فاجأني أحد أصدقائي في المداولة الفكرية. هذه حال من يتعامل معها بمنطق "التهافت" الذي تم ّتجاوزه مع الانتقال من "نقد العقل" إلى "نقد النص" الذي هو وجه آخر لما سمّيته "نقد الحقيقة". بحسب هذا النقد، لا أحد يمكنه القبض على حقيقة الأشياء، في ما يطرحه أو يقوله ويدّعيه، سواء اختصّ الأمر بماهية الواقع أو بمعنى نصّ من النصوص. الممكن هو أن نقرأ النص، أي الأثر المكتوب أو المسموع. بذلك نتجاوز مفهوم "المرآة"، أي كون الحقيقة هي تطابق بين الفكر والواقع أو بين المعنى والنص، إلى مفهوم "القراءة"، حيث النص هو إمكان للتفكير، أي مادة يجري العمل عليها، أو حقل يجري الاشتغال فيه، شرحاً وتأويلاً، أو حفراً وتنقيباً، أو تحليلاً وتفكيكاً، لإعادة البناء والتركيب على وقع التحديات والازمات، أو في ضوء التحوّلات والكشوفات، لتجديد العُدّة الفكرية في الحقل والرؤية أو في الطريقة والمعاملة.
هكذا، نحن إزاء قراءات للوقائع أو للنصوص تخلق واقعها وتملك حقيقتها، بقدر ما تكون خصبة وفعّالة، تقرأ ما لم يُقرأ في النص من قبل، أو تشخّص الواقع بصورة جديدة ومغايرة، بالكشف عما مارسته القراءات السابقة من التحكم والاعتباط، أو من الحجب والاقصاء.
ما كتبتُهُ هو قراءتي للنصوص والوقائع. وقد اكتشفت أن مقالتي لاقت صداها الإيجابي لدى الكثيرين ممن اقتنعوا أو أعجبوا بما ورد فيها من أفكار وتحليلات أو مواقف واقتراحات. إن النص هو أثره في النهاية. وحتى لو غيّرتُ اقتناعي وتراجعتُ عن رأيي، فإن ذلك لن يكون له أيّ مردود على ما تركته مقالتي من أثر في ذهن من قرأها. فالأجدى التعامل معها، ليس بمنطق التهافت، للدفاع عن آراء ومواقف مسبقة أو مستهلكة، بل قراءتها قراءةً توليدية تحويلية، من أجل تجديد المعنى وفتح أفق جديد للمقاربة والمعالجة.


التهمة المزدوجة
بعد ذبح المتسلق الفرنسي هرفيه غورديل، في الجزائر، على يد جهادي إسلامي من اتباع الخليفة "الداعشي"، شعر الكثيرون من المسلمين الفرنسيين وسط موجات الإدانة للعمل البربري، بأنهم متّهَمون أو مُدانون. ومع أن البعض منهم يقدّم نفسه بوصفه من أهل الحداثة والعلمانية، راحوا ينفون التهمة عن أنفسهم من جهة، وينفونها عن الإسلام من جهة ثانية، وذلك بتقديم الأدلة والشواهد على أن ما فعله الإرهابي الجهادي لا يمتّ إلى الإسلام بِصِلَة، بل هو بعيد عنه كل البعد.
بذلك وقعوا في فخ الهوية من حيث لا يعون، بقدر ما كانوا ضحية لممارسة عنصرية من جانب بعض مواطنيهم الذين يعاملونهم بوصفهم مسلمين في الدرجة الأولى وفرنسيين من الدرجة الثانية. آن للعرب المقيمين في فرنسا، أو في بقية الدول الغربية، التي يحملون جنسيتها، أن يكسروا مثل هذا التعامل العنصري، في ما يخص المواقف وردود الفعل على الأعمال الوحشية للجهاديين الاسلاميين.
فلا يجدي النفي المزدوج الذي يلجأ إليه الفرنسي العربي أو المسلم. من الممكن أن يتصرف الواحد، كما يتصرف أي فرنسي غير متديّن في مثل هذه المواقف: استنكار العمل البربري بوصفه مواطناً فرنسياً أو عالمياً. للمثال، عندما توجّه إليَّ، ذات مرّة، صديقي المسيحي/ الماركسي، بنقده للإسلام، أجبته على الفور أن للإسلام مراجعه، وهي أولى بالدفاع عنه.
وهكذا، لا أعتبر نفسي مُداناً إزاء ما يمارَس من بربرية بإسم الإسلام، لكني في المقابل لا أنفي التهمة عنه، لأن الإسلام، كعقيدة منزلة، بحسب إيمان اتباعها، الذين يتعاملون معها بصفة قدسية، لا ينتج سوى التعصب والانغلاق أو التطرف والإقصاء، الرمزي والفكري أو الجسدي والمادي، تجاه المسلم المختلف في المذهب، أو تجاه الآخر المختلف في الديانة أو الفلسفة.
تلك هي حصيلة عودة الدين وصعود رجاله على المسرح، تحت مسميات الصحوة أو النهضة: حروب أهلية فتّاكة، وتدمير منهجي للبلدان العربية، بصورة تطيح مكتسباتها الحضارية ماضياً وحاضراً.


الإحتكار والإحتقار
ما نعاني منه هو حصيلة احتكار الحقيقة، بما هو وجه آخر لاحتقار الناس، من أي جهة أتى، أكان صاحبه من أتباع الديانات أم من أصحاب الإيديولوجيات أو الفلسفات.
هذا ما تمارسه، بشكل خاص، الأصوليات الدينية، وفي الأخص الأصولية الإسلامية. أصل هذه الآفة إيمان المسلمين بأنهم أصحاب عقيدة مقدّسة، نطقت بالحقيقة المطلقة والنهائية، لأن الله، بحسب دعواهم، قد اصطفاهم، ليختم وحيه ويبلّغ آخر رسائله ومقرّراته إلى عباده.
نام المسلمون على هذا المعتقد الاصطفائي، النرجسي، الذي زيّن لهم أنهم خير أمة، وأن كتابهم لا يأتيه الباطل، وأن شريعتهم تنطوي على أجوبة وحلول لكل ما تطرحه الحياة الحديثة من أسئلة أو مشكلات. مؤدى هذا الاعتقاد هو الختم على العقول، وشلّ الطاقة الحيّة على الخلق والابتكار، لإنتاج الجهل والفقر والتخلف، فضلاً عن ممارسة التعصّب والتطرّف كما يتجسد ذلك في انفجار العنف بأبشع وأشنع أشكاله وصوره.
الحصيلة ليست فقط سدّ أبواب المعرفة، أي أن العرب لم يعد لديهم شيء يقولونه للعالم، ثمة ما هو أسوأ: السطو على النظريات العلمية المنتجة في الغرب الحديث، لنسبتها زوراً إلى القرآن. وهذا هو مآل الدين الخاتم والكتاب الذي يحيط علماً بكل شيء، بحسب ما تمارسه الأصولية الإسلامية في هذا العصر. أقول في هذا العصر، لأن الماضين مارسوا حريّتهم في التفكير والنقد، كما تجلّى ذلك في قراءات خصبة للنصوص وللواقع، أثمرت تطويراً للفلسفة والعلوم المنقولة عن الغير، وافتتاحاً لحقول معرفية جديدة.


الإنسان هو المشكلة
هل أتراجع، باستبعادي الصفة الدينية، عن قولي بالهوية المركّبة والتعددية، بوجوهها وأطوارها وأبعادها؟
قطعاً لا. فأنا عندما أضع هويتي موضع التشريح والتفكيك أقف على تركيبة منسوجة ممّا لا حصر له من الطبقات والدوائر أو من العناصر والروافد.
هذا على المستوى الوجودي. ولكن عندما أتناول هويتي على المستوى الحقوقي والرسمي أو على المستوى الحضاري والمدني، أؤثر استبعاد الصفة الدينية، ليس فقط لأن الإسلام العقائدي والفقهي لم يعد عنواناً صالحاً للمشاركة في صناعة الحضارة، بل لأنه لا ينتج إلا النماذج التي تجسدها الأصولية الإسلامية الجهادية، بمعسكريها السنّي والشيعي. وكلاهما متواطئ من حيث صناعة الإرهاب، تماماً كما تتواطأ الأصولية الإسلامية نفسها مع الأنظمة الديكتاتورية والشمولية. كلاهما يدعي محاربة الآخر، فيما هو يستدعيه ويتغذى منه ويخدمه بقدر ما يستمدّ مشروعيته من دعوى محاربته. هكذا نحن إزاء ضدّين أو نقيضين هما وجهان للعملة البربرية نفسها. انه "تواطؤ الأضداد على صناعة الخراب".
هذا ما يجعل المجتمعات العربية بين فكّي الكماشة: الطاغية والمرشد، عبادة الزعيم وتقديس النص، تُهمة التخوين ووصمة التكفير، عماء العقيدة وفخاخ الهوية، رعب المخابرات وبربرية حرّاس الإيمان ومحاكم الضمير، باختصار: ملاك الاوطان وملاك الله.
لا أنسى ملاك الحقيقة المتعلقة بقيم الحرية والعدالة والتقدّم والتنوير، كما جسدها المثقف الذي ساهم في "ازدهار" الإرهاب والاستبداد، بسبب عجزه وفشله وكساد بضاعته لتعامله مع شعارات الحداثة بصورة تقليدية، فقيرة، تخلو من الإبداع والتجديد، هذا فضلاً عن تهويمات المثقف النرجسية وتشبيحاته الطوباوية، طوال عقود من رفع الشعارات الداعية إلى التغيير والتحديث. هذا ما يحملني على أن أقول جواباً عن السؤال: مَن يصنع التنّين الإرهابي؟ انه ثالوث الطاغية والمرشد والمثقف.


الذريعة والخديعة
في ما يخصّ "بربرية" الجهاد الإسلامي، كتب البعض أن البربرية مورست من جانب ثقافات أخرى توضع في خانة الحضارة والمدنية والتقدم...
بصرف النظر عما إذا كان المعترض قد قرأ مقالتي أو لم يقرأها، لست بحاجة إلى أن يذكّرني أحد بأن أميركا ألقت قنبلة نووية على هيروشيما لكي ترتكب أكبر مجزرة أو محرقة في تاريخ البشرية، أو أن الغربيين خاضوا حربين عالميتين ذهب ضحيتهما عشرات الملايين من الناس. كذلك لا أحتاج لمن يبيّن لي بأن المستعمرين اغتصبوا الفتيات ثم عذّبوهن وقتلوهن في الجزائر.
فأنا ناقد للإنسان منذ كتابي "لعبة المعنى" (1991)، حيث ذهبت إلى أن الحضارة هي مجرّد قشرة يسهل تمزيقها أو الإرتداد عليها. لأن البشر تحرّكهم الأطماع والأحقاد، أكثر مما تحرّكهم إرادة التعقل أو عقلية الشراكة والتضامن. لذا هم قلما يخوضون حروباً عادلة أو مُجمَعاً عليها. ما يُقدمون عليه هو إشعال حروب بدافع الثأر والانتقام أو من أجل الهيمنة والسيطرة أو للفوز بالغنيمة والثروة. بعد أن يخترعوا لها الأعذار والمسوّغات، لتجميلها وإسباغ المشروعية عليها.
أيّاً يكن، ليست بربرية الغير مسوّغاً للتستر على بربريتنا والدفاع عنها، وإنما هي فرصة لكي نعيد النظر في هوياتنا الثقافية وأنساقنا القيمية ومؤسساتنا المجتمعية، بل في إنسانيتنا بالذات. وهذا شأن النقد الفلسفي، إنه يتجاوز الصراعات بين الثقافات والديانات أو بين المذاهب والإيديولوجيات، لكي يهتمّ بتشخيص المشكلات الوجودية.
على هذا المستوى تفهم الأزمة بوصفها مشكلة الإنسان مع نفسه في الدرجة الأولى، أي مع أفكاره (مفاهيمه وقيمه). هذه المشكلة تتجسد في هشاشة الكائن البشري الذي لا يحسن سوى إنتهاك ما يقدّسه ويعلي من شأنه. انه سقوط الإنسان المدوي في إمتحان القيم والمبادئ، وكما تشهد على ذلك هذه الهمجية المعاصرة التي تفاجئنا من حيث لا نحتسب، بعد كل هذه العهود والمواثيق من الكلام على احترام الحقوق والدفاع عن الحريات. وتلك هي فضيحة الإنسان في مطلع هذا القرن.
من المفارقات في هذا الخصوص أن الدول التي ترفع راية حقوق الإنسان يستقبل قادتها الفتاة الباكستانية ملالا، التي تعرضت للاعتداء في بلدها لمنعها من الذهاب إلى المدرسة. كلنا نتضامن مع حرية ملالا وحقها في طلب العلم. لكن ذلك لا يعني أن نقف موقف المتفرج، العاجز والساكت أو المتواطئ والمتآمر، على ما يحدث من أعمال إبادة وجرائم في حق الإنسانية يقضي ضحيتها ألوف الأطفال وعشرات الألوف من الناس بالغازات السامة والأسلحة الفتاكة.
في كل حال، فإن ما تعنيه عودة البربرية أننا نتجاوز الآن التصنيفات السائدة، بين تقليدي وحداثي، أو بين إسلامي وعلماني، أو بين يميني ويساري، أو بين عربي وغربي، أو بين أميركي وروسي، أو بين مسلم ومسيحي، أو بين شيعي أو سُنّي... لقد بلغ التصنيف حدّه الأقصى، بعدما اختلطت الأوراق وتشوشت الرؤى بقدر ما ازدوجت المقاييس وانتهكت المعايير. التصنيف الآن هو بين مدني وبربري أو عالمي وعنصري أو ديموقراطي وفاشي أو ليبيرالي وأصولي.


المتراس والتراث
أعود إلى مسألة الهوية، هويتي وعلاقتها بالإسلام، لأقول بأن هذه المسألة هي أعقد مما نتصوّر. ثمّة من يعترض على نقدي، معتقداً أنه يدافع عن الإسلام، الذي وضعته على مشرحة النقد والتشريح.
مع ذلك يسيء هؤلاء إلى الإسلام بقدر ما يتعاملون معه كحقيقة مطلقة أو قوقعة خانقة أو مدرسة جامدة. بذلك لا يحسنون سوى انتهاك ما يؤمنون به، لأن عالم الإنسان، بما هو عالم الكون والفساد والنقص والتحول والتعدد، هو نقيض لما هو مطلق وواحد وثابت وكامل ونهائي أو قدسي ونوراني. لذا، أتعامل مع الإسلام، سواء اختصّ الأمر بالقرآن أم بما نشأ حوله من قراءات وتأويلات، كإمكانات للتفكير، كخبرة بشرية، كتراث يحتاج إلى أن يقرأ قراءة حيّة، خصبة، تحيله عملة حضارية تنفع المسلمين والعالم أجمع.
من تكرار القول أنني لا أفرّق بين اتجاه فكري وآخر، كما لا أفرّق بين مفكر وآخر، إذ الكل كانوا مبدعين، في عصر الازدهار الحضاري، كلٌّ على طريقته وبأسلوبه، أو في حقل عمله وميدان اختصاصه.
هذا شأن الغزالي الذي كان أبرز عالم متكلم ظهر في الملّة الإسلامية. صحيح أنه كفّر الفلاسفة دفاعاً عن معتقده الأشعري السنّي، لكن أعماله أوسع وأغنى بكثير من أن تختزل إلى جانبها العقائدي، إذ هي تشكل منجماً فكرياً يمكن التنقيب فيه والعمل عليه، لإنتاج معارف جديدة حول الحقيقة والهوية أو المعنى والعقل أو العلم والمعرفة، وسواها من مفردات الوجود.
هذا شأن ابن تيمية أيضاً، وبخلاف ما يُظن. فأنا إذ انتقده كمتكلم يشتغل بعقلية التكفير للمختلف، تحدثتُ عنه كناقدٍ رائد لمنطق أرسطو، في مسألة "الكليات"، إذ هو لامس بنقده منطق الحسّ لدى فلاسفة العصر.
مرةً أخرى، تلك هي ثمرة الانتقال من "نقد العقل" إلى "نقد النص". فكلمة "العقل" هي مثل كلمة "الإنسان" أو "الإسلام"، أو حتى كلمة "الله"، إنما تحيل على ما هو كلي ومتعالٍ أو ماورائي وغيبي، وكما يتعامل مع هذه المفردات أهل العقول المحضة والماهيات الثابتة أو الهويات الصافية والتشبيحات النورانية. لا يوجد في النهاية إلا النصوص والاجساد. وبقدر ما تعامل هذه بلغة الكليات والمتعاليات أو المثاليات والروحانيات، تزداد الانتهاكات للمبادئ والمثل أو للقيم والقواعد.
الخروج من هذا المأزق هو الكفّ عن التعامل مع الإسلام كسلطة مقدسة، أو كمتراس عقائدي لإطلاق النار الرمزية على الآخر. فمنطق التأليه للذات لأبلسة الآخر، يجد ترجمته في هذه الحروب الأهلية الهمجية التي تدور بين المسلمين، أو ما يتعرض له المسيحيون وطوائف أخرى من أعمال التهجير والتنكيل أو القتل والابادة.
لنحسن القراءة والتشخيص حتى لا تُفاجئنا أعمالنا. فالماضي الإسلامي لم يكن عصراً فردوسياً، لأن لكلّ عصر ظُلُماته ولا يبرأ من ذلك عصر الأنوار الأوروبي. كذلك لا وجود لنصٍّ هو عالَمٌ نوراني، لأن الخطاب هو ما يحجبه ويسكت عنه.
بقدر ما يتناسى أو يتجاهل لغته وبنيته وآلياته وبداهاته وسلطته، وتلك هي إشكالية النص، أيٍّ نصٍّ كان، مما يجعل من التنوير مهمّة دائمة.
وإذا كان التنوير هو مهمة دائمة، فإن المرء العاقل والمتبصّر، لا يتخلّى عن عينه النقدية، ولو طرفة عين:
أولاً تجاه ذاته، فلا يكفّ عن أعمال المحاسبة والمراجعة، كي يخفّف من نرجسيته وعصابيته، ولا يغرق في أوهامه وتهويماته حول الواقع. لذا هو لا يأخذ بالاشياء كما تقدّم نفسها، إذ الواقع هو تعقيداته والتباساته بقدر ما هو متاهاته وفخاخه.
ثانياً تجاه غيره، لذا هو يحاول ممارسة حريته في التفكير والنقد، بعيداً من أي وصاية من أي سلطة أو جهة أتت، أكانت دينية أم فلسفية أم سياسية. مَن هذا شأنه، لا يركن إلى ما يُقال ويطرح، لأن هناك في كل ما نفكّر فيه ونقوله، جانباً يبقى في دائرة العتمة ويخرج عن نطاق السيطرة. هكذا نحن لسنا فقط ما نعرفه ونبرهن عليه. هناك الوجه الآخر: ما نحجبه من الوقائع أو نخفيه من الحقائق أو نتستر عليه من الميول والنوازع. هذه الوضعية الوجودية، التي تجعل من المستحيل التطابق بين الفكر والعمل، هي التي تفسر كيف أن المفكر يفاجأ بما لا يفكر فيه، أو أن الفاعل يصل الى خلاف ما يريده. على المرء أن يتماهى مع نفسه، كما أنها هي التي تفسر كيف أن الفاعل لا يصل دوماً الى ما يريده.
صاحب العين النقدية لا يركُن، بشكل خاص، إلى أصحاب الدعوات والمشاريع، بعد هذا الاخفاق والتردي والانهيار في العناوين والشعارات. من غير ذلك يستغفل أو يخدع لكي يتحول إلى أداة لغيره أو إلى فرد في حشد أو رقم في قطيع يحسن التصديق والتصفيق والتهليل بصورة عمياء، لكي يفاجأ ويصدم بما نحصده من المساوئ والكوارث.
خلاصة القول: ما يفاجئنا من ممارسات وتصرفات عنصرية أو فاشية أو بربرية، يعني في هذا العصر المعولم فقدان الإنسان سيادته على نفسه، كما يعني من جهة أخرى فقدان النظام العالمي صدقيته في ما يخص إدارة الشأن البشري والكوكبي. يشهد على ذلك كل هذا التخبط والتورط والتواطؤ من جانب الفاعلين واللاعبين على المسرح، إذ الكل يصنعون النماذج الذين يدّعون محاربتها. وإذا كان من المستحيل أن يتساوى المرء مع نفسه، فالعكس صحيح، عند مَن يتأمل ويتعقل، بمعنى أن مَن نعتبره الآخر أو الضد، هو وجهنا الآخر، أي مَن كنّاه أو مَن نكونه أو مَن قد نكونه.
لست لأتشاءم. ولكن لم تعد تجدي المعالجات والتدابير بالمفاهيم القديمة أو السائدة فهي تحتاج إلى إعادة النظر. وبالأخصّ مفهومنا للإنسان وللمشترك الإنساني. إن نمط الإنسان المثالي والروحاني الذي ندافع عنه يسجّل نهايته كما تشهد عليه فضائحه وكوارثه وبربريته. هنا مكمن العلّة وبيت الداء: نماذج القداسة والعصمة والبطولة والنجومية التي نصنع بها إنسانيتنا، بعقلية التملك والقبض والتحكم. هذا ما ينبغي كسره والتحرر منه، لبناء مفاهيم جديدة ومشتركات مختلفة. ولذلك حديث آخر.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم