السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

الشاعر العظيم يتوِّج الماضي بغار قصائده

عقل العويط
عقل العويط
A+ A-

عبثٌ، الآن، كلّ قولٍ في سعيد عقل. وعبثٌ كلّ مديحٍ أو تحليل. باطلٌ أيضاً كلّ نقدٍ منهجيّ، جامعيّ وأكاديميّ. إذ كيف لأحدنا أن يفعل، والشاعر هذا، ليس أقلّ من "إله"، في نظر نفسه وشعره، كما في نظر مريديه الشعراء والنقّاد؟!


قد لا نجد كثيرين يفسحون مجالاً للكلام "الموضوعي" عليه، باعتباره شاعراً كالشعراء الكبار، أديباً خاضعاً للمساءلة النقدية والشعرية الحديثة، أو مفكراً وسياسياً اجترح نظرياتٍ وأفكاراً طوباوية عن لبنان، لكنه "ارتكب" الكثير من الخطايا في حقّ الشعر "الآخر"، والفن "الآخر"، كما في الناس "الآخرين". هاكم، مثلاً، ما تنشره عنه مواقع الانترنت، في لبنان والعالم العربي. وهاكم التلفزيونات والإذاعات والصحف. فهل ثمة مَن يجرؤ منا، في هذا الخضمّ، على أن يقول، على سبيل المثال: سبق للشاعر العظيم سعيد عقل أن مات شعرياً منذ عقود؟ أو أن يقول: لا أحبّ شعر سعيد عقل لأنه نادى بلغةٍ غير اللغة العربية، أو لأنه أهان الفلسطينيين وقال فيهم قولاً عنصرياً! وإذا جرؤ أحدنا، فقد لا يجاريه إلاّ القليل القليل. فهل من سبيلٍ، والحال هذه، سوى أن يصرخ الواحد منا في لجّة رأسه، أو على الملأ، ماذا أستطيع، بعد، أن أقول فيه، وهو القائل في نفسه وشعره: "لسائلي أإلهٌ أنتَ؟ قلتُ بلى".
لم ينل الموت، أمس، من سعيد عقل. فالشاعر كان قد حسب حساباً دقيقاً لهذه المسألة، معتبراً، منذ البدايات، أن إقامته ها هنا، إن هي سوى وجودٍ موقّت، وليس عليه عندما يُقرَع الجرس الأخير، إلاّ أن ينضمّ إلى مقرّ إقامته المطلقة، التي شيّد عمارتها بالشعر الكلاسيكي، الرمزي، المسبوك، الأصيل، و"المطلق"، الذي لا يترك مكاناً، وإن ضيّقاً، لأيّ شعرٍ آخر، أو رأي آخر، أو لأيّ احتمالٍ بالتغيّر في أحوال الإنسان والكون والزمان.
هو غادرنا، أمس، ربّما على مضضٍ منه، ليلتحق بمقرّ إقامته الدائم. فقد كان، هنا، فوق تراب بلاده، وذراها، ليس من أجل حياةٍ دنيا، بل من أجل أن يطرد الوحشة عن الحبّ، كما الجريمة عن لبنان، والمأساة عن الجمال.
فيا لطيبها، إقامته في ظهرانينا، التي أمضاها نحّاتاً متفرّداً، ينحت في الكلمات، النحت الرخاميّ اللذيذ، الصافي، الخدِر، اللطيف، البارد، المتمكن، المُغوي، المُسكِر، المموسق، المشدود، المتوتّر، المتأني تأنّي الكبرياء في التعاطي مع الدرر النادرات.
لقد صفّى سعيد عقل حسابه مع الموت، التصفية المهيبة المتشاوفة، محتقراً إيّاه، مُعرِضاً عنه، شأنَ مَن يتحصّن بخلودٍ لا يفتّ من عضده فناءٌ ولا زوال. لكنه، لو استطاع، لاستحبّ لذاته البقاء، بعض الشيء، ليطمئنّ باله إلى المصائر والكينونات. ولاستبقى جسده أكثر، ها هنا، لا من أجل حياته، بل فقط من أجل الكبيرات القيم، التي آمن، هو، بها، وجعل مقاماتها في الباسقات الجبال. وهي السموات طرّاً.
غاب سعيد عقل، وارث المتنبي وسائر الكبار، مغلقاً الباب على زمنٍ شعريٍّ عظيمٍ آفِل. بعد قليل، سينفتح باب النقد على مريدين، وعلى الكثير الكثير ممّن يقيمون على الضفاف الأخرى من الحبّ والجمال ولبنان، كما على الضفاف الأخرى من الشعر والأدب والفن والفكر و... ثقافة الحرية!


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم